×

أسئلة لن توراى الثرى مع محمد ... ستظل عالقة

التصنيف: الشباب

2011-03-10  09:12 ص  1748

 

 

جهاد بزي
يحمل الأب ابنه الممدد على ذراعيه، كمن يحمل جبلاً.
الطفل الهزيل الرقيق، ذو الرأس المرمي إلى خلف، والوجه الشاحب المذعور على النفس الأخير التائه بين اكثر من مستشفى، وبين اكثر من حياة، يثقل بروحه المكسورة ذراعي الاب وقلبه، ويثقل الأرض التي يمضي فوقها، وسيثقل ترابها الذي سيواري الطفل كما لو أنه يواري خجله مما فعل.
محمد نبيه الطه، الباحث عن أنفاسه قبل يومين من هذا القرن الواحد والعشرين الذي نعيشه، بدا موته من منطق الأمور. اسباب رحيله ولدت معه: فلسطيني. لاجئ في لبنان. عاش في مخيم. معوّق. فقير. اسباب كالدرجات، كلما ازدادت، اقترب المولود في العام 2000 من ارتقائه إلى السماء، قبل عقود من موعده. قبل حياة كاملة.
أسباب موته أكثر من أسباب حياته، الطفل والحياة الرقيقة التي من السهل تمزيقها ونفضها في الهواء، هكذا... كي تتلاشى.
وأسبابه لا تبدأ عند باب المستشفى، بل عند باب البلد الذي بات تعاليه على الفقراء من أبنائه راسخ في أصل وجوده. البلد ذو الساسة النافخون في نار صراعهم، الراقصون حولها كي تكبر، ولا باس إن أحرقت بلداً. المغنون، كل على طائفته، يرمي لها فتات الطبابة والتعليم والوظيفة كبدائل عن الأصل الذي يعنيه أن يظل كذلك، «حكومياً» ضعيفاً غير آيل إلا الى السقوط، لا ثقة فيه، ولا أمل يرتجى منه، ولا حول. الرعاة الذين يخيفون قطعانهم من ذئاب الآخرين، لن يدفعوا بلداً إلى دولة، ولن يرسوا على مفهوم واحد لعدالة. ولن ينشغلوا، ولو، بالحد الأدنى، بهؤلاء الضيوف القسريين الذين كانوا يوماً جزءاً من الصراع، وكانوا في أيام أخرى حجة للصراع، وباتوا منذ سنوات بعيدة، مجرد منسيين لا نتذكرهم إلا لهدم مخيمهم بعد طردهم منه، ثم رميهم في محيطه كيفما اتفق، والمتاجرة بهم، وحبسهم، حتى اللحظة، في المستوعبات والوعود بالعودة الكبرى إلى الأمتار المربعة القليلة الممنوعة عنهم.
لا نتذكرهم إلا للتهويل بهم، فزاعات في حرب مذهبية محتملة، وغرباء جاهزين في لحظة التوطين لافتراس خصوصيتنا اللبنانية، وغيلان تاريخهم حكايات رعب تطرد النوم من عيون الأطفال. اللاجئون. هؤلاء الذين يعيشون بين جدران عالية تخبئ في داخلها لحى تمتد إلى البطون، وعيوناً تقدح ناراً، وأزقة تطوف بأطفال قذرين، يكادوا يكونون شوائب على جلد البشرية، اذا سقط منها طفل، كمحمد، بدا هذا الجلد، بالطبع، أنقى.
حين يموت محمد نبيه الطه هذه الميتة، يموت معه الكثير مما يدعيه هذا البلد لنفسه من أخلاق. حين يعجز طفل فلسطيني عن التقاط نفسه، فعلى لبنان أن يسأل عما جنت يداه وتجني، على الفلسطينيين واللبنانيين معاً.
حين يكون موت محمد على هذه البساطة، لا يعود مبرراً رمي التهمة على وكالة «الاونروا» وعلى المستشفى وعلى القيادة الفلسطينية المنقسمة على بعضها. حين يموت طفل فلا بد أن يسأل البلد الذي ولد هذا الطفل على أرضه عن سبب اصراره على عدم الاعتراف له بحقه في الوجود وفي الهواء.
حين يموت محمد نبيه الطه، بلا أن تمزقه المقاتلة العدوة، فعلينا ان نوجه اسئلته المشروعة كلها، كلها، إلى صدرونا، حول كل ما فعلناه ونفعله مع اللاجئين الفلسطينيين من عيوب أولها وآخرها اغماض أعيننا عن مخيماتهم، للظن بأنها تختفي ما أن نغمض اعيننا عنها.
تلاشى محمد في الهواء. جسده بدا بين ذراعي والده رقيقاً يمكن للوالد أن يحمله هكذا، ملفوفا بالكفن إلى الابد، كأنه سؤال، كأنه شكوى مرفوعة إلى الله. روحه كانت رقيقة على الرجل المثقل باحساس بالقهر لا وصف له.
الاسئلة التي تناثرت حين كسرت روح محمد إلى نصفين، هذه الاسئلة هي الثقيلة، وهي التي، كالروح، لا توارى في الثرى. تظل عالقة في الهواء الذي منع عن قلب الطفل وعن عمره وعن عينيه وعن روحه.
 

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

تابعنا