×

حديث التاكسي في صيف الأزمة السورية

التصنيف: المرأة

2012-04-28  10:00 م  1421

 

 

كتب شعيب الحسن
يغطي اللون الأصفر شوارع مدينة دمشق لكثرة سيارات النقل "التاكسي" في العاصمة الأقدم عبر التاريخ. والتاكسي في دمشق، كما في غالبية مدن العالم، ليس مجرد وسيلة نقل، بل مكان أشبه بزاوية من مقهى تتمتع ببعض الخصوصية كونها لا تتسع سوى عدد محدد من الأشخاص (من اثنين إلى خمسة فقط) وتملك القدرة على التنقل عبر المشاهد المتبدلة أو المكررة من مشاهد الحياة في المدينة، فتكاد التاكسي من هذه الزاوية تكون أقرب إلى عدسة كاميرات تسجل الحياة، أو مدونة تخزن في ذهن من يقودها ملايين المشاهد المختلفة والأحداث العادية أو الغريبة خلال ساعات عمله متنقلاً من شارع إلى آخر ومن حي إلى حي، برفقة خلان يتغيرون كل حسب زمن انتقاله من مكان إلى آخر عبر المسافات على متن التاكسي، هذه الآلة العجيبة التي تختزل الزمن والمسافة بقدرة سائقيها على اختراق أو تجاوز مناطق الاختناق المروري، بينما يرون للراكب قصة ما، أو يصغون لما يرويه لهم باهتمام.
والتاكسي في دمشق غالباً ما تبدو حالها حال المدينة، تعيش بين عبق الماضي وجمالية إبداعات الحاضر. الجزء الأكبر من هذه العربات العجيبة غالباً ما يكون مثل متجر صغير متنقل مزركش بمختلف الحلي والمجسمات وحتى بعض الكتابات، ولا شيء من هذا للبيع وكله لإرضاء مزاج السائق، الذي يشعر بالراحة للجمال داخل عربة يعيش فيها الجزء الأكبر من يومه، كما ويعطيه هذا المظهر الجميل شعوراً بالرضا أمام "الركاب" الذين يدهشون للجو المريح والجميل داخل صالون التاكسي. الأمر لا يخلو بالطبع من عربات "تاكسي" يحرمها صاحبها أو سائقها من العناية والاهتمام، إلا أن هذا لا يغير في جوهر الأمر شيء وتبقى "التاكسي" زاوية أو ركن يشهد الكثير من الأحداث ويسمع الأحاديث الخاص منها والعام.
جرت العادة أن يدور حديث بين السائق والزبون "راكب التاكسي". ففي دمشق تأتي بداية الحديث بين الاثنين حول العداد الذي يحدد أجرة النقل. قد يرفض السائق تشغيل العداد، الأمر الذي يثير حفيظة الزبون، فيبدأ الحديث بينهما: "لماذا لم تشغل العداد؟. إنه لا يعمل- يجيب السائق دونما اكتراث- يا سيدي ادفع قدر ما تشاء ولن نختلف، لا بد وأنك ذهبت إلى هذا المكان ذات يوم وتعرف كم هي قيمة الأجرة، سأرضى بما تدفعه". ويستمر الحديث على هذا النحو حتى يصل السائق إلى لحظة الشكوى من العدادات المجحفة بحقه والتي لا تعطيه كامل أجره الذي يستحق...وقد يشكو السائق من الازدحام على الطرقات، ويعبر عن انزعاجه الشديد عندما تعيق تقدمه سيارة تقودها امرأة أو سائق "جديد على الكار"، وهذا موضوع آخر للشكوى، إلى جانب مواضيع أو أسباب تكاد لا تنتهي.
في حالات أخرى: يجلس الزبون، يشعل سيجارة ويأخذ نفساً عميقاً ويتنهد "إيييه- دنيا. يبادر السائق: خير شو صاير معك، صلي على النبي، نص الألف خمسميه". هنا يبدأ حديث من نوع آخر، يكون فيه السائق مستمع، يتدخل أحياناً ليعبر عن تعاطفه مع الراكب، أو يبدي الرأي. ويبدو أن راكب التاكسي يشعر في اللاوعي بالأمان في الكشف عن مشاكل قد تكون شخصية أمام السائق، فهو يشعر وكأنه لم يبح بشيء أمام أحد، ولم يفضح سراً، لأنه وسائق التاكسي سرعان ما سيفترقان، وعند هذه النقطة تنتهي الحكاية كأن شيئاً لم يكن.
أما الآن وفي الوقت الذي تشهد فيه سورية أزمة معقدة مركبة متعددة الأوجه فتجد أن السائق والزبون يحرص كلاهما على عدم الإكثار في الكلام، وإن تكلما فبأي موضوع يحرصان من خلاله البقاء بعيداً عن مناقشة الوضع السياسي وما يجري في البلاد. إلا أن الحدث كثيراً ما يفرض نفسه ويبدأ أحدهما الحديث بعبارة مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله، من كان ليصدق بأن يجري كل هذا. هنا قد يرد الآخر مباشرة بتوجيه الاتهامات لطرف ما،وقد يرد بعبارات عامة يجس بمساعدتها نبض محدثه. وفي هذه الأثناء تخيم على الأجواء داخل التاكسي حالة من الترقب بانتظار أن يكشف السائق أو زبونه عن وجهة نظره للآخر.
ونظراً لأن التاكسي، على صغر مساحته، يكاد يكون مكاناً عاماً تدور فيه مختلف الأحاديث، فإن تناول الأزمة على متنه يكون بصورة رئيسية عبر عبارات عامة يُظهر الراكب والسائق بواسطتها حرصهما على الوطن، دون أن تؤدي هذه العبارات إلى كشف أحدهما عن موقفه للآخر، وعما إذا كان موالياً أم معارضاً برؤيته للحدث. ومن أكثر هذه العبارات رواجاً عبارة "الله يفرجها"، "الله يخلصنا وترجع الأمور متل أول"، "والله يا أخي عمبصير شي غريب علينا وعلى عاداتنا"، "الله يرحم الشهداء، الدم السوري عزيز وغالي يا أخي". وفي بعض الحالات التي يدور فيها الحديث حول ما يجري بصراحة من جانب السائق أو الراكب يضطر أحدهما إلى مجاراة الآخر إن كان يختلف معه بالرأي في الواقع.
إنها الأزمة في سورية والتي طالت شتى مجالات الحياة فيها، دون أن تطال الأمل الذي ما زال حياً لدى كل سوري بأن يعود الاستقرار إلى البلاد ليعيد معه المحبة بين الناس، وعدم التكلف في العلاقات بينهم. وقد طالت الأزمة حياة سائق التاكسي الذي لم يعد يجد من يقله عند كل ناصية كما في السابق، ما أدى إلى تراجع دخل أصحاب التكاسي. وما يزيد "الطين بلة" أن هؤلاء يعتمدون على الموسم السياحي في جني أرباح العام، لكن في ظل الوضع الراهن لا يمكن الحديث عن مستويات من السياحة تؤمن لسيارات التاكسي عملاً كما في المواسم خلال مرحلة ما قبل الأزمة، ولهذا تجد شكوى السائقين أكثر في هذه الأيام. لكن رغم كل هذه التعقيدات ما زالوا هم وسياراتهم زاوية يشعر فيها المرء براحة غريبة وبأمان، فيبوح الناس في التاكسي بما في قلوبهم، ويغادرونها تاركين السائق بانتظار سماع قصة "الزبون" التالي، دون أن ينسى همومه الحياتية المتزايدة التي تحاصره خلف أبواب سيارة صفراء لا نصيب لها بالرزق الوفير هذا العام في صيف الأزمة السورية الثاني

موسكو

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا