×

السنيورة ـ دمشق: العلاقة المستحيلة

التصنيف: سياسة

2009-12-24  05:38 ص  1626

 

عندما ذهب الرئيس سعد الحريري إلى دمشق في 19 كانون الأول، كان قد سبقه إليها قبل 4 أعوام و5 أشهر الرئيس فؤاد السنيورة في 31 تموز 2005، بقواسم مشتركة جمعت بينهما. كلاهما لم يكن يعرف الرئيس السوري بشّار الأسد

نقولا ناصيف
قصد كل من السنيورة والحريري دمشق كي يفصل بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري والعلاقات اللبنانية ـــــ السورية. فصل السنيورة حينذاك بين التحقيق الدولي والعلاقات الثنائية، وفصل الحريري أخيراً بين المحكمة الدولية والعلاقات الثنائية. بين الزيارتين كان قد تغيّر الكثير في لبنان، ولم تُشعر سوريا جارها والمجتمع الدولي إلا بأنها تغيّرت قليلاً. لم تغيّر إلا ما طالبتها به واشنطن، وهو تعديل سلوكها. سلّمت بالعلاقات الدبلوماسية، الحدث الأهم في تاريخ علاقات البلدين، كأحد أشكال تعديل السلوك بعدما انقلب الوضع في لبنان رأساً على عقب إثر أحداث 7 أيار 2008.
وإلى اليوم لا يزال كثيرون ينظرون بأهمية مبالغ بها إلى التبادل الدبلوماسي، ويغمضون العيون عن الانقلاب الأخطر الذي قاده 7 أيار عندما ثبّت المصالح السورية في لبنان وألغى سلفاً نتائج انتخابات 2009 وحمل الحريري الابن على مصالحة سوريا في بيتها.
وحده الحريري كان يستطيع حمل هذا الوزر وافتتاح علاقة جديدة بسوريا، لأنه ابن الحريري الأب، وزعيم السُّنّة، ورئيس الغالبية النيابية، ثم رئيس الحكومة اللبنانية. أما سلفه فاكتفى بأن يكون رئيس الحكومة.
لم يُعرف عن سوريا معارضتها رئيساً للحكومة اللبنانية كالسنيورة. منذ الأربعينيات امتعض الرئيسان جميل مردم بك ثم حسني الزعيم من الرئيس رياض الصلح، وامتعض الرئيس جمال عبد الناصر (عندما كان يرأس سوريا عبر الوحدة) من الرئيس سامي الصلح، وفي بعض الأحيان من الرئيس صائب سلام، والرئيس حافظ الأسد على مرّ ثلاثة عقود من أكثر من رئيس للحكومة كسلام والرؤساء تقيّ الدين الصلح وشفيق الوزان وميشال عون. لكنّ السوريين لم يُضمروا كراهية لرئيس كالسنيورة. اجتمع بالأسد مرة واحدة طوال أربع سنوات، وبمسؤولَين سوريين اثنين فقط، هما نائب الرئيس فاروق الشرع ووزير الخارجية وليد المعلم، ولم ينجح في التفاهم مع أحد منهم. لم تشأ دمشق مرة التعاون معه، ولا فتحت نافذة جدّية للحوار وإياه في علاقات البلدين. وعندما استقبلت الحريري قبل أيام أبرَزَت فارق نظرتها إلى كل من الرجلين. كان الحريري ضيفاً استثنائياً على الأسد، بعدما كان السنيورة زائراً عادياً اكتفى بلقاءين وغداء. بين زيارتَي 2005 و2009 كان الكثير الكثير قد تغيّر في لبنان وحوله.
السنيورة أحد قلة قرأوا مسوّدة الخطاب الذي ألقته النائبة بهية الحريري في ساحة الشهداء يوم 14 آذار 2005، وخاطبت سوريا: «لن نقول وداعاً، بل إلى اللقاء». ولم يكن في حسبان أحد تحت وطأة الاغتيال البشع أن ثمّة لقاءً محتملاً مع سوريا في ما بعد. ذهب السنيورة إليها، ثم ابن الحريري بعدما أضحى رئيساً للحكومة وبات في سرير الرئيس السوري.
عام 2005 سمعت دمشق من السنيورة ما لم تعتد سماعه من رئيس حكومة لبنان، ولا من الحريري الأب
خلافاً لكل حلفائه في قوى 14 آذار، بمَن فيهم ابن الرئيس الراحل، لم يتهم السنيورة سوريا باغتيال الحريري الأب. في كل أول اجتماع كان يعقده مع محقق دولي، سواء ديتليف ميليس وسيرج برامرتس أو دانيال بلمار، كان يقول لهم: لا أريد أن أعرف منكم شيئاً عن المعلومات التي توصلتم إليها. لا أريد أن أعرف شيئاً عن التحقيق. لكني أُريد حقاً أن أعرف أي مساعدة يقتضي أن تزوّدكم إياها الدولة اللبنانية في مهمتكم. وفي أكثر من مناسبة، لم يسمعه القريبون منه يتهم سوريا بالاغتيال، ولم يأخذ على محمل الجدّ الروايات التي كانت تروَّج عن قاتلين مزعومين كالقاعدة وتنظيمات متشدّدة سواها. في اجتماعات خاصة عندما يتحدّث عن القتلة كان يقول «هم»، من غير أن يحدّد. ويسترسل أحياناً، فيروي ما رواه له الرئيس الراحل إثر عودته من دمشق في 26 آب 2004، ولقائه الأسد الذي طلب منه تأييد تمديد ولاية الرئيس إميل لحود. يروي: فور عودته من دمشق ذهب الحريري الأب إلى فقرا واتصل به وطلب منه موافاته وباسل فليحان. وأخبرهما بأن الرئيس السوري هدّده وطلب منه تمديد الولاية. تحدّث السنيورة دائماً عن مجهول في صيغة الغائب بلا تعريف، وكان يقول «بدن» (يريدون). ولم يكن يُفصح هل المقصود سوريا أم حلفاؤها اللبنانيون في المعارضة، وحزب الله خصوصاً، الذين نظروا إلى دوره ـــــ كما نظرت دمشق ـــــ على أساس أنه رأس حربة المواجهة الأميركية لسوريا في لبنان. سمّى أحياناً إيران وهو يتناول الجهات التي تقف في طريق حكوماته وتعرقل عملها. عندما يُسأل عمّن اقترف الجريمة كان يقول: أنا لا أعرف.
ميّز بين ما كان يقوله حلفاؤه في اتهام سوريا ـــــ ومعظمهم اتهمها مباشرة بالقتل، والبعض الآخر كالحريري الابن يريد تعليق مشانق القتلة، والبعض الثالث كالنائب وليد جنبلاط قال في الأسد ما لا يُصدّق ـــــ وبين ما يتعيّن أن يقوله هو كرئيس للحكومة راهن باستمرار على تصويب العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، وهو يخوض في الوقت نفسه معركة التحقيق الدولي ثم المحكمة الدولية بضراوة، ويحمل وزر تفكك حكومته والطعن في شرعيتها.
خلافاً للحريري الابن، لم يقصد السنيورة دمشق لفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين تطوي ما حصل في الأشهر الماضية، وبالكاد انقضى 5 أشهر ونصف شهر على اغتيال الحريري الأب، بل إجراء حوار عبّر عنه في محادثاته مع الأسد ونظيره السوري محمد ناجي العطري. قال عبارات لم تعتد دمشق سماعها من رئيس حكومة لبنان. لم تسمعها من الحريري الأب حتى في أفضل مراحل تحالفه معها، يطالب على نحو ما طالب به خلفه من علاقات ندّية من دولة إلى دولة، وتبادل دبلوماسي، وترسيم الحدود، وعدم التدخّل في الشؤون اللبنانية، والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية. لم يقل الحريري الأب مرة للأسد الأب، ثم للأسد الابن، بإعادة نشر الجيش السوري في لبنان وعلاقات دبلوماسية وترسيم الحدود، بل وطّد تحالفه معها وأطلق اليد لنفوذها.
لم يتهم مرة سوريا بالاغتيال، ولم يأخذ على محمل الجدّ ما كان يقال عن مسؤولية القاعدة وتنظيمات متشدّدة
عندما ذهب السنيورة إلى دمشق كانت جملة وقائع قد فُرضت على سوريا وحلفائها: غالبية جديدة معارضة لدمشق انبثقت من الانتخابات النيابية يقف السنيورة على رأسها، وضع القرار 1559 موضع التنفيذ بدءاً بانسحاب الجيش السوري، ضغوط دولية على سوريا، تحقيق دولي في اغتيال وُجّهت للفور أصابع الاتهام فيه إليها مع تصاعد وتيرة الاغتيالات والتفجيرات. لكن رئيس الحكومة الذي خرج بعدم ارتياح باد على وجهه من مقابلة الأسد، فاجأه العطري في الاجتماع التالي وهو يحدّثه عمّا لم تكفّ سوريا عن مطالبة لبنان به قبل أكثر من أربعة عقود، وهو حملة الصحف عليها. عنى العطري الإعلام الموالي لقوى 14 آذار. ردّ نظيره: «في طريقي إلى هنا وجدت ألوف المنازل على سطوحها صحون لاقطة. ماذا يعني مراقبة جريدة أو منعها في ظلّ هذا التسرّب الهائل من المعلومات والأخبار؟ عندما تكون علاقات البلدين جيّدة تنعكس في الإعلام. والعكس صحيح».
حدّثه العطري أيضاً عن العلاقات الأخوية بين البلدين. ردّ السنيورة: «هذا يعني أنني في طريق عودتي إلى بيروت، في ظلّ العلاقات الأخوية، لن أبصر شاحنة عالقة على الحدود كما رأيت في طريقي إلى الشام». كان قد ذهب لمعالجة تفاقم أزمة الحدود والتضييق على العبور. وقال السنيورة، كما روى للقريبين منه بعد عودته من دمشق، إنه لم يرتح إلى الزيارة، لأن ما طالب به لم يلق آذاناً مصغية. تكلم بحماسة، وردّ نظيره من ورقة دوّنت الموقف السوري تعكس طبيعة النظام. بعد زيارة دمشق تفاقم التدهور.
بعد 3 أشهر، في 10 تشرين الثاني 2005، صعقته إهانة الأسد له في خطاب وصفه فيه بأنه «عبد مأمور لعبد مأمور»، وقال إن لبنان «بات الآن ممراً ومقراً لحبك المؤمرات ضد سوريا». لم يردّ السنيورة، لكنه قال لقريبين منه في ما بعد معزّياً نفسه: «والله كأنني ما سمعت شيئاً». بعد ساعات على خطاب الأسد مساء اليوم نفسه انسحب الوزراء الشيعة الخمسة من جلسة مجلس الوزراء، رافضين اتخاذ موقف يدين إهانة الرئيس السوري لرئيس الحكومة اللبنانية بذريعة أن الموضوع لم يكن مدرجاً في جدول الأعمال. كانت تلك أول أزمة تضرب حكومته.
مع ذلك ثابر على إرسال برقيات تهنئة ومعايدة للأسد في أعياد دينية ورسمية، من غير أن يردّ عليها الرئيس السوري. ثم سرّب العطري خبر اتصال السنيورة به ثلاث مرات من دون أن يردّ عليه أيضاً. وفي قمّة الخرطوم في 30 آذار 2006، بعد مصافحة عابرة قال له الأسد: «لقد تغيّرتَ كثيراً». ردّ رئيس الحكومة: «لم أتغيّر على الإطلاق».
كانت تلك إشارات سورية صريحة إلى رفض دمشق التعاون معه. أغضبها إصراره على المحكمة الدولية وإدخال مجلس الأمن والجامعة العربية طرفاً في علاقة لبنان بها، وملأ أدراجهما رسائل ومذكرات تتمسّك بالنديّة والتبادل الدبلوماسي وترسيم الحدود، وصولاً إلى ما عدّته سوريا تحريضه على القرار 1680 يوم 17 أيار 2006. حتى في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة، ظلّ على هامش العلاقة بسوريا. لم يذهب مع سليمان إلى قمّة دمشق يوم 13 آب 2008. في الأشهر الستة الأخيرة من حكومة ما بعد الدوحة، بدأ الأسد يجيبه عن برقيات التهنئة والمعايدة. طعن في شرعية حكومته الأولى، وتجاهله بعد انتخاب سليمان وقصر إشادته على رئيس الجمهورية.
في قمّة الكويت سمع الملك عبد الله يقول للأسد: كيفك يا بشّار؟. فأدرك التغيير الذي ينتظر لبنان
لم يتوقف الحوار مع سوريا على زيارة 2005. التقى السنيورة في الذكرى العاشرة لمؤتمر برشلونة في تشرين الثاني 2005 بالشرع. قبل أن يجتمعا اختلفا حول مَن يزور الآخر. ثم التقيا. اعتقد أنه انتزع من نائب الرئيس السوري مكسباً مهماً هو أقرب إلى انتصار سياسي ودبلوماسي مفاده اعتراف سوريا بلبنانية مزارع شبعا. لكن الشرع أضاف إن حكومته لا ترسّم حدودها قبل إجلاء إسرائيل عنها. بذلك أبقى الخلاف بين البلدين في مكانه، بعدما كانت دمشق قد قالت أكثر من مرة إن المزارع لبنانية، وكفى. كان الحوار مشدوداً ومتوتراً، وأخفق السنيورة في التفاهم مع محدّثه. التقى أيضاً بالمعلم في اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت إبان حرب تموز 2006، ولمس، في حوار مشدود بينهما، إحجام سوريا عن التعاون وإصرارها على دعم حزب الله ورفض البنود الـ7 التي اقترحها لإنهاء حرب إسرائيل. إلا أن الوزراء العرب جاروا الموقف اللبناني. في كل القمم العربية منذ 2005، التقى السنيورة الأسد على هامش الاجتماعات واكتفيا بالمصافحة، إلى أن لمس عن قرب تغييراً جارفاً في العلاقات السعودية ـــــ السورية التي سعّر تدهورها المواجهة بين بيروت ودمشق.
في القمّة الاقتصادية في الكويت يوم 19 كانون الثاني الماضي، وفي حمأة الخلاف بين الرياض ودمشق، فوجئ السنيورة بملك السعودية عبد الله يقترب من الأسد، وسمعه يقول له: «كيفك يا بشّار». بعد دقائق أعلن الملك في خطابه أمام القمة مصالحته مع دمشق كفاتحة لمصالحات عربية. أنبأ ذلك بتغيير جدّي سيُقبل عليه لبنان. بعد ساعات اجتمع السنيورة بالرئيس ميشال سليمان في جناحه، واتفق وإياه على تقاسم الأدوار لتنشيط جهود الملك في مصالحات لا تقتصر على السعودية وسوريا، بل تشمل مصر وسوريا.
لم يكن سهلاً على السنيورة إحداث خرق إيجابي في العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، وسط احتدام صراع دمشق الدولي والإقليمي مع أكثر من دولة. في ظلّ الحريري الأب لم يضطلع بأي دور سياسي، مكتفياً بموقع تقني كوزير للمال. لم يفاوض السوريين مرّة حينذاك، ولم يُتِح له الرئيس الراحل، كمعاونيه الآخرين، الاتصال بالاستخبارات السورية والتعاون معها. هكذا وجد نفسه يخلف الحريري الأب، تحت وطأة نزاع السعودية ومصر مع سوريا، والمجتمع الدولي مع سوريا، وتنهال على رأسه هجمات ثقيلة الحمل عليه كقول الأسد في 15 آب 2006 عن القادة العرب «أشباه رجال»، وحرب تموز، ثم اندفاع الملك عبدالله ـــــ بالتزامن مع انكفاء واشنطن وباريس عن التعاطي المباشر بالوضع اللبناني ـــــ إلى مصالحة الأسد الذي قصد الرياض لاحقاً لتثبيت المصالحة. وقبلها أحداث 7 أيار. قبل ذلك كان يسمع عن يمينه ما يقوله الحريري الابن عن شنق القتلة، وعن يساره ما يقوله جنبلاط في الرئيس السوري.
عندما ذهب الحريري الابن إلى دمشق، استعاد السنيورة عبارة كان يحلو له تكرارها، هي أنه حافظ على الجمهورية. تذكّر أيضاً عبارة يطبّقها على نفسه، هي أنه كان يحفر الجبل بإبرة، قادت أخيراً ـــــ أو يُفترض ـــــ إلى علاقات لبنانية ـــــ سورية تختلف تماماً عمّا كانت عليه قبل 26 نيسان 2005. وهو سبب كافٍ لإشعار ذاته بالرضى.

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا