×

إبتلع البحر أحبائي..

التصنيف: صور جوية

2010-01-26  09:09 ص  1766

 

دوريس سعد
dorissaad@albaladonline.com

 

كارثة أطلت بأنيابها على لبنان ولم تــرأف به بل أصابته بالصميم، فكلما استفاق من أزمة وقعت عليه الأخرى. اعتدنا على أن يكون لنا حصة في كل نكبة دولية، حتى اننا لم نسلم من زلزال هايتي، ولكن هذه المرّة ليست ككل المرات، فهي الضربة القاضية التي انصبت في صلب الجسم الشبابي اللبناني، والضحايا هم من خيرة اللبنانيين الواعدين.
يقول المثل الشائع "بكل عرس إلو قرص"، اي أن اللبناني بات هدفاً للنكبات، وانها لم تعد تؤثر فيه، لكن الذي حدث صباح الإثنين كان فعلاً من أكبر الكوارث التي شهدها لبنان حتى في أوج الحروب الأهلية. الموقع مطار رفيق الحريري الدولي، والحادثة وقوع طائرة، الحادثة جديدة الموقع على اللبنانيين ولكنها قديمة من حيث الحدث، فمن نكبة كوتونو الى "زلزال" أثيوبي ضرب ساحل لبنان بشباب فدائيين، ذنبهم الوحيد أنهم فتشوا في المناطق الأفريقية عن لقمة عيشهم، والمصير واحد.
اختفت طائرة بوينغ 800-737 تابعة للطيران الإثيوبي من على شــاشــات رادار المراقبة فــي مطار بيروت الدولي بعد نحو خمس دقائق مــن اقــلاعــهــا، وذلـــك عند الساعة 2.37 صباحا بالتوقيت المحلي اثناﺀ عاصفة رعدية تخللتها امطار غزيرة، وعلى متنها 90 راكــبــاً، كانت في طريقها الى اديس ابابا. 54 من ركاب الطائرة لبنانيون و22 إثيوبيون، كما كان بين الركاب بريطانيان إضافة إلــى كنديين وروس وفرنسيين وعراقيين وســوريــيــن. وقــد أعلنت السفارة الفرنسية في بيروت ان مارلا بييتون زوجة السفير الفرنسي في لبنان دينيس بييتون كانت ضمن ركاب الطائرة. وتباعاً اصدرت مديرية الجيش فــي تقريرها ان الطائرة شوهدت والنيران تندلع فيها، ثم ما لبثت أن سقطت في البحر قبالة منطقة الناعمة على مسافة 8 كلم من الشاطئ. وعلى الفور تدخلت وحــــدات تــابــعــة لــكــل مــن الــقــوات البحرية والقوات الجوية اللبنانية وفوج مغاوير البحر بمؤازرة طوافات وزوارق بحرية تابعة لقوات الأمم المتحدة، لتبدأ عمليات الاغاثة.
بــعــد ذلــــك كــثــرت الـــروايـــات والأقاويل لكن "الجرح ما بيوجع إلا محلو"، وكانت الرواية الأولى تصب في خانة الطقس العاصف الذي كان المسبب لوقوع الطائرة، وشيع أنــه تم إرســال 3 نــداﺀات للقبطان للسير بالطائرة عكس العاصفة ولكنه لم يستجب وذهــب باتجاه عين العاصفة، ومن ثم روى سكان الساحل رؤيتهم لـ "كرة من اللهب" تسقط قبالة قرية الناعمة على بعد بضعة كيلومترات جنوب العاصمة اللبنانية. أما الرواية الثانية فتقول ان قبطان الطائرة سارع الى الإقلاع، متخطيا السرعة والعلو المسموح بهما عند الإقـــلاع مما تسبب في إنفجار فــي الــطــائــرة، ومــن بعدها هبطت في البحر. وغيرها وغيرها من الروايات التي لم توثق أي واحدة منها، ولم يعرف حتى الساعة سبب السقوط، كما لم يصدر أي تقرير نهائي للجنة التحقيق المكلفة البحث في القضية.
لحظة وقـــوع الـــحـــادث هرعت وسائل الإعــلام الى المكان، وعرف أهالي الضحايا بالفاجعة، فتهافتوا الى المطار طالبين أهلهم، نافين ما سمعوه، متمسكين بالأمل، أمل الحياة لأحبائهم. مشهد لا يوصف، صالة الشرف التي تستقبل ضيوف الــشــرف الآتــيــن عــادة للتهنئة أو للمشاركة بلحظات فرحة في لبنان، لفها فــي تلك اللحظات الأليمة الوشاح الأسود، صراخ، ، بكاﺀ أحضان، ولا يسعك في تلك اللحظات سوى الــقــول "الــلــه يصبركن". فــي هذا المكان ترهبك الدهشة الموجودة على الوجوه، وعلامات الإستفهام المحيطة بالمكان، "فماذا حصل، وكيف حصل، ولماذا حصل، ولماذا، ولـــمـــاذا"؟ . كــل تــلــك الــــ "لــمــاذا" تصدر عن قلوب محروقة على أغلى ما لديها. وجــوه وتعابير الناس لا تفرقها عن وجوه الساسة اللبنانيين الذين تهافتوا الى موآساة الأهالي في محاولة للتخفيف عنهم، ولكنهم لم يدركوا ان ملامحهم تفضحهم، فهم "مبلكمون"، والصدمة بادية عليهم، فحتى تصريحاتهم كانت حزينة لأن لم يسبق للبنان ان شهد مثل هذه الكارثة على أرضه، وكلهم يتوحدون على القول "ماذا نقول، كارثة، كارثة".... في كل زاوية من صالون الشرف تجد قصة، متشابهة مع قصة أخرى بحزنها وأساها، فقد سهيل إبن عمه فؤاد محمد اللقيس والعديد من أصدقائه، ولــم يكن يستطيع الــكــلام لــشــدّة الصدمة، فهو مذهول، غير مصدق ما جرى، مشيرا الى أن الأخبار متضاربة وليس هناك شيﺀ معروف، ويسكت، ومن ثم يكمل "وصلتو الساعة 12 على المطار، كيف هيك صار، ومن بعدا شفت على التلفزيون إنــو وقعت الــطــيــارة، بــس مــا صــدقــت، وهلق ناطر"....
وعــنــد ســكــوت سهيل، تسمع بكاﺀ مريم شعيب وأقربائها يبكون خالهم حسن محمد عيساوي الذي أتى الى لبنان ليمضي عطلة، ومن ثم يعاود السفر الى عمله، تنهمر دموعهم الغزيرة لــدرجــة أنهم لا يستطيعون الكلام ومن ثم تقول وهي متأثرة "ما صرنا معودين من وقت كوتونو". وفي نفس الزاوية يستند غازي على الحائط مسانداً الــعــائــلــة، منتحبا لــفــقــدان رفيقه "العريس" إبن الـ 35 سنة "ما تهنى المعتر، ما تهنى، تزوج من 20 يوما وذهب وزوجته، وحماته الى مكان عمله"، ويتوقف عن الكلام...
وفــي صالة أخــرى تــرى المشهد يتكرر، ، بكاﺀ أنين، صــراخ، وتدافع كلما رأى الحاضرون سياسيا أو أحد المعنيين في المطار، ليسألوه "هل من ناجين"؟ ، فها هو السؤال الأمل ليبلو ر ا لمعنى ا لحقيقي لكلمة نجاة، فعندما تسمعها من فم أم ثكلى، او زوجــة مقهورة، او اخت، تشعر بها وتتمنى تحقيقها. "يا الله ليه تركتنا يــا الــلــه"، "كيف بيطلعوا طيارة بهيدا الطقس، أنا كيف تركتو يــروح، الحق عليه، لا الحق على الدولة"...، بهذه العبارات تلخص حالة سيدة في الـ 45 من عمرها تقريباً تلطم وجهها، وتبكي، ولا تتكلم، بل فقط تــردد عبارات أليمة، وإتهامات، وتبكي ولا تتوقف عــن الــبــكــاﺀ. "ويـــن الــحــضــارة، وين التمدن، أكثر بلد منكوب هالبلد، كل مرّة ياكلها الشعب اللبناني، يا تقبرني يا ستي"، إنها جدّة محمد علي قاطبي 21 ربيعاً، تبكيه، تبكي المهندس الشاب "المتل القمر"، وتضيف "كــان رايــح لعند أهله، يفاجئهم عايشين بالغابون، قولولي الله يصبرك، الله يصبرني".... بينما الأب المفجوع يبكي ابنه حسين بركات، وهو لم يعد يقوى على الكلام فدموعه فقط تحاكي ما يشعر به من وجع لفقدان حبيبه الغالي "شفت بالأخبار، وجيت لهون، شو بدي قول الله يلطف فينا"....
ولــيــس بــبــعــيــد أصـــدقـــاﺀ زيـــاد القصيفي وإيــلــي رفــيــع يـــرددون مزاياهما وحسناتهما، ويبكونهما ككل، الأقــربــاﺀ وكــانــت هــذه المرة الاولى التي يغادر فيها زياد من دون عائلته لان زوجته حامل بتوأم، وهي مفجوعة لا تقوى على الكلام. وتروي السيدة زينب برّو والدموع بعينيها عن خادمتها ميكيا التي كانت تعمل عندها بأمانة منذ 3 سنوات وهي كانت ذاهبة لرؤية ذويها، وتقاطعها أخت ميكيا التي إنهارت وهي تقول باللغة العربية "أختي، اختي" ومن ثــم تلطم باللغة الأثيوبية، وكل زملائها الأثيوبيين يعبرون فقط بالبكاﺀ وباللطم على وجوهم.
وأطلت السيدة رنــدة بــري على الأهــالــي، وواســتــهــم، وجالستهم لفترة طويلة، وشاطرتهم أحزانهم وبكاﺀهم مرددةً "الله يقوينا، الله يقويهم".
كــارثــة وطــنــيــة اصــابــت لبنان، فجعلت من يوم 25 كانون الثاني يحفر في ذاكرة اللبنانيين ويعود بنا الى مشاهد مأسوية ظننا أننا بتنا بعيدين عنها، فأخذ البحر ما أخذ،
أشار طبيب النفس انطون صعب الذي كان متواجداً في صالون الشرف في محاولة منه لتهدئة الأهالي انه في هذا الحالة "لا يسعنا سوى ان نتكلم معهم ونعلمهم كيف يفكرون لأن تفكيرهم توقف مع عمق الصدمة التي أصابتهم، ندع الأهالي يعبرون عما يكبتونه وآخر حل يكون الحبوب المهدئة".

 

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا