×

تاريخ الشاي: الشراب الذي يجعل المرء أرستقراطي الذوق

التصنيف: تقارير

2009-09-19  11:40 ص  1366

 

 

عبد الله كرمون من باريس: أراهن على أن من يقرأ "كتاب الشاي" الذي أنجزه الياباني أوكاكيرا كاكيزو سوف تتغير لديه كيمياء الشاي نهائيا. ولسوف يتحول لديه إلى مشروب آخر مختلف تماما على الذي ابتذل على مر الزمن احتساء وتداولا. ثم اعترف أن قوة أوكاكيرا اللغوية وحسه الشعري الباهر قد استطاعا تحويل الشاي إلى إكسير سحري، وجعل شيئا من الجبروت يلفنا لتنطلي علينا سريعا سلاسة فلسفته. وصار يحدثنا عن أشياء أخرى، يتبادر لغير المتتبع أنها لا تمت بنسب إلى الشاي، ولكنها في الحقيقة كلٌّ متكامل تندغم فيه فلسفة التأمل بطقس الاحتساء. 
  لقد وضع أوكاكيرا تحفته منذ سنة 1906، ما دفع بفيليب بيكييه الناشر إلى أن يعيد إخراجها، بعدما مضى على ظهورها، ولأول مرة، قرن من الزمن. ظل فيه الكتاب يحظى على الدوام، نظرا لروعته، بألق كبير.
كتب أوكاكيرا كتابه مباشرة بالانكليزية. ساعده على ذلك إتقانها في اليابان قبل أن يتصل بالغرب ويتعرف، عن كثب، إلى ثقافته وحضارته. ساعيا كهدف من بين أغراضه الأخرى، أن ينقل إلى الغرب جزءا مهما من الحضارة الأسيوية التي لا يكاد أحد يعرف عنها شيئا حينها.
طالما صُنّف الشاي من بين الأدوية، ولم يصر مشروبا مقترنا بكماليات الحياة وبجو الإنشاد الشعري في الصين إلا في بداية القرن الثامن. ورفعته اليابان إلى سدة التشريف بأن وضعت له مذهبا جماليا حقيقيا: "طريق الشاي". يشرح أوكاكيرا هذا الأخير بأنه معتقد مبني على حب الجمال حتى في أبسط التفاصيل اليومية وأهونها. فهو يلقن النقاء والانسجام. في تعاطيه لغير الكامل ما دام يهدف إلى الممكن في حياة مرهونة إلى المستحيل.
طريق الشاي نوع من النقاء لأنه يرغم على التطهر، كما أنه يشكل نوعا من الديمقراطية الأسيوية، إذ يجعل من كل منخرط نوعا من أرستقراطي الذوق. حتى أن اللغة اليابانية تحتفظ بأثر كل ذلك، إذ يقال لشخص ينقصه الحس المرهف بفصول الحياة الكوميدية -التراجيدية أنه "ينقصه الشاي".
وقد رَدَّ أوكاكيرا بشكل قاطع، لا جدال فيه، على الغربيين الذين يعيبون على الآسيويين أن يكثروا من الجعجعة، في تمجيدهم للشاي وذكر فضائل النظام المادي والروحي الذي يتحلقون حوله ممارسين طقسهم. قائلا إنهم لم يفعلوا إلا تمجيد ملكة الكاميلياء.
ويأخذ، ثانية، على الغرب الذي لا يفهم شيئا في ثقافة اليابان التي يصمها بالبربرية، طالما لم يولوا اهتمامهم إلا إلى فنون السلم الجميلة. أما اليوم الذي انخرط فيه في ساح القتال (ماندشوري) فقد حلا لهم أن يصفوهم بالمتحضرين!
يفضل أوكاكيرا أن يظل اليابانيون بربرا إن كان تطلعهم إلى الحضارة ينبني فقط على مجد الحرب المهول. لأن الغرب لم ينتبه إلى طريق الشاي ولم يثر لديه أي اهتمام.
نبههم الكاتب بأنهم قد فكروا بأفظع من ذلك بشأنهم، وأبسطه أن كتاب اليابان وصفوا الغربيين بأنهم يخبئون أذيالا خلف ملابسهم. لقد غيرت الحاجة إلى الاتجار نوعا هذه العلاقة العدوانية المبنية على جهل الآخر، مثلما حسنت جموع الطلاب الأسيويين المتزاحمين على مدارس وجامعات الغرب من معرفتهم بحضارة الآخر. أبدى الأسيوي هو إرادة في التعلم، أما الأوروبي الذي يقدم إلى أصقاع أسيا فهو يسعى على الدوام إلى التبشير والتلقين ولا يهمه، على أية حال، أن يتعرف ويتعلم.
لقد حملت عدة سفن تابعة للشركة الهولندية للهند الشرقية سنة 1610 أول شاي إلى أوروبا، الذي عرف في فرنسا سنة 1636 قبل أن يصل إلى روسيا سنة 1638 وتستقبله إنكلترا سنة 1650. لم يفت أوكاكيرا أن يشير إلى أن حركة انتشار الشاي هذه قد قوبلت بنوع من التصدي مثلما يحدث، كما كتب، لكل الأشياء الجميلة في هذا العالم. ذلك أن هنري سافيل (1678) قد وصفه بأنه "عادة سيئة" في كتابه "مبحث حول الشاي" الذي نشره سنة 1756. كما قال عنه جوناس هاناوي إن هذا المشروب يفقد للرجال بنيتهم ويسيء إلى حسن النساء. ثم انتشر الشاي شيئا فشيئا وصار مشروبا يوميا وشعبيا.
لكن لكي يكون الشاي جيدا ويفوح بكل عبقه فإنه يتطلب يد عارف. وقد عد الشاعر لِي كِي لِيْ المنتمي إلى عصر السونغ، ضمن الأشياء المتحسر عليها في هذا العالم، شايا جيدا يفسده إعداد غير سليم.
فمثله مثل كل فن فللشاي مراحله ومعلموه ومدارسه. فتطوره يخضع لثلاث مراحل أساسية: الشاي المغلي، الشاي المدقوق والشاي المرشح. ويؤكد أوكاكيرا أن المعاصرين ينتمون إلى المدرسة الأخيرة. ولكي يستعير تحديدات العالم الفني فإنه يرى أن هذه المراحل ينطبق عليها كل من الكلاسيكية، الرومانسية، والطبيعية.
لقد عُرف الشاي الآتي من جنوب الصين منذ القدم من لدن علم النبات والطب الصيني. فالكتب القديمة التي تذكره لا تفتأ تمجد هذه النبتة القادرة على التنفيس على المرهق، إسعاد الروح، تقوية الإرادة وتحسين الرؤية. كما كانت تضمخ بها الأعضاء على شكل خليط لعلاج الروماتيزم.
ثم صار الشاي فنا من فنون الحياة حيث يتم فيه دعوة الضيف ومضيفه إلى تخطي عتبة النقاء والبهجة الصافية.
أما غرفة الشاي، فهي كما وصفها أوكاكيرا: "واحة في صحراء الوجود القاتمة". ويرتاب من أن يعجب بها أي ملاحظ غربي، مادام معمارها كله منشأ من خشب، طالما لم يعترف الغربيون بكونها معمارا لهذا السبب بالذات. على أنها لا تدعي أن تكون أكثر من كوخ خشبي. كتب أن "غرفة الشاي هي بداهة منزل الغرابة لأنها تبدو مثل بنية موقتة بنيت لغرض واحد هو أن تأوي اندفاعا شعريا". إنها أيضا منزل الفراغ لأنها خالية من كل تزيين، خلا مما قد يوضع فيها كي يلبي حاجة عابرة.
ماعدا الزهور، هذه النباتات العجيبة التي نحيا في فرح كبير بينها. فهي كما يقول أوكاكيرا أصدقاؤنا الأوفياء. لا يمكننا أن نحيا من دونها. هل بإمكانكم أن تتخيلوا عالما أرملا من حضورها. لكن على الرغم من كون هذه الملاحظة جد كئيبة فإننا، على الرغم من معاشرتنا للزهور، فإننا لم نترفع كثيرا على خستنا. فالإنسان في سنواته العشر حيوان، في العشرين معتوه، في الأربعين غشاش، وفي الخمسين مجرم. ألم يتحول إلى مجرم لأنه لم يتوقف قط من كونه حيوانا؟". بالنسبة لنا ليس هناك ما هو واقعي من الجوع ولا ما هو مقدس من دون رغباتنا الخاصة". يقول إننا كثيرا ما تبجحنا بالتغلب على المادة، ناسين مع ذلك بأنها قد جعلت منا عبيدها. كم من الفظائع لم نرتكبها باسم الثقافة والرقة!
فهذه الغرف قد خطط لها كي لا تسع أكثر من خمسة أشخاص، ومن مرافقها، حجرة داخلية حيث يتم غسل وتحضير الأواني اللازمة قبل نقلها إلى الغرفة، ثم هناك بوابة ينتظر أمامها الضيوف قبل استدعائهم إلى الدخول. ثم نجد ممرا يصل البوابة بالغرفة. فاجتيازه هو أولى مراحل التأمل. كتب: "كل من مست قدمه أديم هذا الممر، لا يمكنه أن يغفل كم سما ذهنه لحظتها على كل الأفكار العادية. في الوقت الذي يتقدم فيه في عتمة وريقات شجر طفَلي. بين فوانيس من غرانيت مغطاة بالرغوة. ماشيا على حصى مبعد في تشتت منتظم فوق سجاد من أشواك الصنوبر".
  هندست هذه الغرفة بنوع من البساطة، يذكر بكونها نتاج تأملات عميقة، خاصة في تأثر كل ذلك بالأفكار الفلسفية المحلية. في الوقت الذي تُنصب فيه تماثيل مصغرة لبوذيدارما أو بوذا محاطا بأتباعه كنوع من التمجيد لذكرى أولئك الحكماء الكبار. فحفلة احتساء الشاي هذه انحدرت من طقس "تشان" الذي يتحلق خلالها رهبان قدام صورة بوذيدارما وهم يحتسون الشاي بالتناوب من قدح مشترك. فكما هو واضح فطريق الشاي مقترن أصلا بالفلسفة التاوية وبلاو-تسو واضع هذا المذهب خاصة. قال هذا الأخير مؤكدا فرادة فلسفته: "إذا استمع ذو عقل بسيط إلى التاوية، فسوف يقهقه، أما إذا لم يستهزئ بها، فإن التاوية ليست تاوية". 
غرفة الشاي نقية؛ لا نجد فيها أثرا لأية ذرة من غبار، وليس فيها سوى بعض الزهور التي تحتفل بحضور الضيوف، لأن القائم بأمر الشاي لن يرقى إلى تلك الدرجة إن لم يحسن الكنس والنظافة ونفض كل غبار ودرن. لأن فلسفتهم مبنية أساسا على الطريقة التي نبحث فيها عن الكمال وليس على الكمال في حد ذاته. من هنا فغرفة الشاي وضعت للقَيِّم عليها وليس العكس. أما عن شقاء الزهور فيأسف عنه كاكيزو متسائلا في استنكار: "لماذا ولدت الزهور جميلة وعلى الرغم من ذلك تعسة؟ فالحشرات على الأقل يمكن أن تلسع، حتى دابة مهادنة جدا يمكنها أن تنتفض متى شعرت بالخطر. الطائر الذي نرغب في ريشه كي نزين به بعض القبعات، يمكنه أن يطير ويفر من متتبعه، الحيوان الذي تطمعون في فروه يمكنه أن يتوارى لدى الاقتراب منه. مع الأسف، فالزهرة الوحيدة التي حظيت بجناحين هي الفراشة، كل الأخريات ظللن عاجزات قدام جلاديهن. هل يصرخن لدى احتضارهن ولا يصل أنينهن إلى مسامعنا الصماء!
نظهر دائما فظاظة أمام الذين يحبوننا ويخدموننا في صمت، ولكنه قد يجيء فيه الوقت الذي سوف ينفضّ فيه أعز أصدقائنا عنا، ما دمنا قساة تجاههم".
ومن بين ما يلقنه لنا نهج الشاي، أيضا، ما باح به أوكاكيرا نفسه إذ كتب: "إذا نحن لم نصفح أبدا عن الآخرين، فذلك لأننا ندرك أنّا هم المخطئون. نعز كثيرا ذواتنا كي لا نقول الحقيقة للآخرين. نحتمي بالكبرياء خشية أن نفشي حقيقتنا الخاصة".
كتب أيضا: "في الدين يقع المستقبل وراءنا، والحاضر في الفن أبدي. أما بالنسبة إلى معلمي الشاي فالمعنى الحقيقي للفن لا يناله إلا الذين يحولونه إلى طاقة حية".
ودون أن نضع مختصرا لمذاهب الصين واليابان في الفلسفة وأن نفصل كل ما أتى به أوكاكيرا، سواء تعلق الأمر بالشاي وبأقداحه وبيوته، وبالقيمين على تلك الطقوس وبكراماتهم ونوادرهم التي لا تخلو من عمق. فسوف اختم بما ختم به الكاتب رائعته، متحدثا عن ذلك المعلم الكبير بطريقة الشاي ريكيو، الذي صاحب ديكتاتورا هو هيديوشي، على الرغم من علمه بمخاطر تلك الصحبة، أُسر للمتسلط من طرف أعداء ريكيو بأن هذا الأخير يسعى إلى تسميمه خاصة وأنه يعد من بين الذين يشربون الشاي لديه. ولأن الديكتاتور كان كثير الشك قليل الروية فقد قرر قتل الرجل، تاركا له مع ذلك أن يعل ماءها بيده. دعا أصدقاءه لطقس شاي أخير، مثل عشاء أخير، ناولهم الشاي واحدا واحدا ثم احتسى قدحه الأخير وحطمه قائلا: "لألا يترع في هذه القدح التي أعلت خائبا أي رجل!"
وختم أوكاكيرا كتابه الجميل: "بمحيا منشرح اجتاز ريكيو إلى المجهول!"

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا