بهدوء وخجل، يخفي شغفا عميقا، كما طباعه، فتح اكرم زعتري الباب على ذكرياته القديمة وكأنه اخرج من ادراجها "نيغاتيف" (السالب) تلك الايام وظهر الصورة ببساطة وصدق . عمل على قصة حقيقية تناقلها أهل المدينة، وتنقل بكاميرته (الوثائقية كما الروائية) عارضا القصة بالصور والوثائق عن ذلك الولد في بداية الثمانينات من القرن الماضي في صيدا بعد اجتياح 1982 وتلك الصواريخ التي انفجرت في مياه البحر ، والأمير الصغير، والمدرسة واول منحوتة فنية فيها، ودرج البناية القديمة والصواريخ الورقية ورواية طيار رفض الأوامر بتدمير مدرسة، فكانت من ذلك الولد رسالة له، استوحى فكرتها من " رسائل إلى صديق ألماني" من البير كامو، وارتكز على أرشيفه الفوتوغرافي لتنفيذها، مركزا على الذاكرة الشخصية والجماعية.
في الجناح اللبناني الذي أدارته ونظمته "ابيل" (الجمعية اللبنانية لترويج الفنون وعرضها) مفوضة من وزارة الثقافة، في بينال البندقية الدولي الـ ٥٥، الكثير من المشاعر والكثير من الفن لاخفاء غصة الالم، بعودة رومنسية وحركة كاميرا بطيئة الى صيدا وبناياتها وثانويتها الرسمية للبنين، من خلال شريط مدته 35 دقيقة. جناح لبنان داخل الارسنال الرسمية يحاذي معرض المدير الفني، ويستمر الى اواخر تشرين الثاني المقبل، ويحتضن حوارا بين عملين، فيديو حديث ولفافة فيلم ١٦ مليمترا. وفيه أيضاً كرسي يدير ظهره للشاشة الكبيرة وينتظر أحدا للجلوس، وعجقة زوار من كبار المتخصصين في عالم الفن وحافظين لأبرز المتاحف العالمية، ويقف إلى جنب الحائط مراقبا بهدوء المعماري، ومؤسس "المؤسسة العربية للصورة" اكرم زعتري.
قدم لزوار بينال البندقية، عملا فنيا اجتماعيا تفاعليا ركز فيه على إظهار حياته اليومية دعانا معه لنصعد الأدراج ونجول في بيته القديم وذكرياته وأفكاره، محولا مأساته الى فن بطريقة بسيطة لتصل رسالته العميقة عن القيم الإنسانية إلى الجميع.
في حديث للـ"النهار" قال انه شارك في عام 2007 مع مجموعة في معرض جماعي في البينال، "الآن لبنان ممثل بفنان واحد في عمل وضع خصيصا للمناسبة وهو أكبر عمل اعمل عليه الآن . اهم ما في هذا المشروع الإضاءة على أهمية رفض أمر عسكري، في حالات يمر بها الإنسان هذه قصة أسمعها منذ العام 1982 عن طيار إسرائيلي رفض ان يقصف مكان يعني لي الكثير، الثانوية التي أسسها والدي وعمل فيها.
لماذا اليوم أردت ان أقول هذا الشيء؟ لأننا في المنطقة نعيش هستيريا عسكرية، من العراق إلى أفغانستان وسوريا، وهذا أمر محبط، فكان من المهم التعلق بقصة، هي خيار رفض أمر عسكري. وأسأل دوما ما كان حصل لو لم يلق الطيار قنبلة هيروشيما مثلا؟ لكان جاء ربما آخر وفعل الشيء نفسه، ولكن احتمال وجود هذا الخيار هو أمر مهم ، المهم التعلق بقصة أمل. وعلى الرغم من انها لا تغير شيئا في الواقع، إنما حرية الخيار هي المهمة، وهو ان يثبت الإنسان شيئا لنفسه على الأقل انه لا يحمل مسؤولية أمام التاريخ. في لبنان تعرضنا لزحف عسكري من كل الجهات، غير ان خيار الفرد هو الذي يجب ان يبقى ونرويه للآخرين ".
وتحدث عن علاقته بهذه المدرسة قائلا: "أتكلم عن مدرسة تربطني بها علاقة خاصة، قررت التصوير فيها مع محيطها، منطقة لديها خصوصية، بنتها الدولة بعد زلزال 1956 دفعة واحدة ، وأردت من خلالها توجيه تحية الى مؤسسات الدولة وكل شيء عام تحديدا تسليط الضوء على المدرسة الرسمية، وأحببت ان أصور المكان وشكله وكيف يعيش في ظل هذا الحدث. ماذا حدث في مكان قصف وعاد للحياة، الفكرة كيف أخيط أمورا مختلفة تربطنا باليوم، كي يبدو الفيلم أننا نعيشه اليوم، نعيش خيار التمرد".
الأماكن نفسها أظهرت لقطات منها في الفيلم على "الايباد" من تصوير الإسرائيليين لفيلم ساعة ونصف الساعة عن اجتياح لبنان "الناجح" بنظرهم على انقاض مدينة نراها تعيش الآن. أردت ان اظهر البشر والأولاد في المنطقة: هم تحدثوا عن إرهابيين أنا تحدثت عن أولاد أعطيتهم أسماء ووجوها. الفيلم رسالة للطيار لأنسنة المشهد".
علاقته بالصورة الفوتوغرافية يعتبرها "مجالا دراسيا أتعلم منه عن علاقة الأفراد بذاتهم ومجتمعهم، أعمل منذ العام 1997 في المؤسسة العربية للصورة على نوع من العمل الميداني في الشرق الأوسط ليلم المشاهد بتفاصيل صوره لتصبح الصورة عالما متوازيا  متخيلا لعمل واقعي موجود".
لماذا استعان اكرم الكبير بأكرم الصغير ليعيد رواية القصة؟
لان الصغير يستطيع أكثر إخبار القصة، هو شخص يتعرف على الحياة والتصوير وتسحره أدوات التسجيل والصوت. اخترت الأولاد من ثانوية صيدا الرسمية للبنين واليوم للبنات، ولؤي حنفي من مخيم عين الحلوة، أدى الدور، وتعلمه بسرعة، وصورته في المبنى الذي سكنته مع اهلي صغيرا أثناء الحادثة".
وعن فكرة الفيلم قال:"كنت نشرت كتابا "محادثة مع سينمائي إسرائيلي متخيلا اسمه أفي مغربي، " وفي الكتاب قصة الطيار وشائعة الـ 1982 فاتصل بي الباحث والأستاذ في جامعة كولومبيا سيث انزيسكا بعدما قرأ الكتاب وتوقف عند الشائعة وقال انه يعرف الطيار وان القصة حقيقية، فشاركني المعلومات عنه ما مكنني من وضع الفيلم والرسالة.
ينهي زعتري فيلمه على صوت محمود ياسين بمقطع من فيلم "بعيدا من الأرض"، لانه أراد أصواتا تعلو من البنايات الخالية ، وكذلك موسيقاه من عمر خورشيد.
وختم حديثه قائلا: "أنتمي إلى الكثير من الناس أنا إنسان حديث انتمي الى أفكار اليوم وغير منحاز للماضي انما اعمل على قضاياه فقط ، انظر اليه كأنه اليوم، فبعلبك حديثة طالما في إمكاني زيارتها اليوم، والماضي هو ما اندثر قبل ان يصل إلينا اليوم، وهذه المقاربة تحررنا من هذا الماضي . نختار انتماءنا إلى قيم أكثر من انتماء فارغ إلى وطن، وكيفية قياس العلاقة مع بلدي تعلمتها من البير كامو. لا احب فكرة النضال إنما التعبير عن أشخاص عن فكرهم وأصواتهم، احب ان يعيش الناس مع أعمالي التي قد لا ترضيهم اليوم، بل ربما لاحقا. واول بند مع بلدي هي العدالة، وإذا لم يستطع تأمينها فرط العقد".