×

صباح الخير يا صيدا

التصنيف: تقارير

2013-07-20  04:41 ص  1511

 
حسين حرب
أسكن في صيدا، وتسكنني صيدا، منذ نيف وخمسين سنة.
مكتبي على بعد أمتار من بوابة الشاكرية، من السور الذي كان يطوّق الجهة الشرقية لصيدا القديمة ابتداء من البوابة الفوقا حيث القلعة البرية، نزولاً إلى البوابة التحتا حيث القلعة البحرية، مروراً ببوابة الشاكرية في الوسط.
مكتبي الآن، على بعد أمتار من البيت الذي نزل فيه ذاك الصبي الذي كنت، في مطلع العام الدراسي 1961-1962 للتحضير لشهادة السرتفيكا. وكلما انتابني ضيق من التعصب الذي يضرب فينا، وكلما سنحت لي الفرصة، أراني أترك مكتبي وتسير بي قدماي من بوابة الشاكرية صعوداً حتى مدرسة الفرير القديمة.
رائحة الفلافل الشهية، فلافل «العكاوي» (الرغيف بـ25 قرشاً) وفلافل «أبو حسن بديع» (الرغيف بـ15 قرشاً). مكتبة البساط، معامل منير البساط للراحة والحلاوة. هذا الدرج يؤدي إلى حيث كان يسكن طلال. وأمام هذا القبو كان ذاك الصبي يسترق النظر والطعم إلى صانع الكاتو، لابساً الوزرة ومنكباً، والقمع بين يديه، على تزيين قطع الكاتو البيضاء والبنية المصفوفة في قوالب خشبية.
هنا بيت فرنسيس من طنبوريت. هذا محل الخمارة. هنا بيت جوهر وعلى هذا الدرج صعدت للمرة الأولى إلى الغرفة التي استأجرها لك والدك، بعيداً من الضيعة والأهل. ومن هذا الباب دلفت في السنة الثانية إلى غرفة لدى أم جورج، من درب السيم.
قبل الوصول إلى درج القلعة البرية تنعطف يميناً. هذا محل عبد الله صوفان، ومن هذه الشرفة كان يطل عليك طلاب من عدلون وأنصارية. تمر في حي الزويتيني ومنه إلى «رجال الأربعين» يطل عليك الأزرق. هذا «بحر اسكندر» وحي الفواخير، وهناك جورة الجمل التي كدت تغرق فيها يوماً.
من «رجال الأربعين» إلى «ظهر المير» و«المقاصد»، ومنها إلى المصلبية. من هنا «سينما الحمرا» و«النادي المعني» والعصر الذهبي لكرة الطائرة. ومن هناك «سينما الامبير». خطوات وأمامك درج «قهوة القزاز». على اليمين محل الفوال أبو عادل، يطل عليك هذا العكاوي الفارع الطول بالبرنس الأبيض حاملاً المزيتة، مفاخراً بأن الحاج أمين الحسيني كان يرتاد مطعمه في عكا.
تصل إلى ساحة السرايا، ساحة التجمعات والخطابات والتظاهرات، من هنا إلى الأسواق: سوق النجارين، اللحامين، المنجدين، القماش، الكندرجيي، القشله، البوابة التحتا، خان الرز... ومن هنا تخرج بجوار خان الفرنج، فيطلّ عليك بحر العيد، الميناء، القلعة البحرية والزيرة.
تفيق من حلمك.
حملتني صيدا يافعاً مع أبناء جيلي الوافدين من الجنوب، إلى مدارسها الابتدائية، المتوسطة والثانوية. كان ذلك طيلة عقد الستينيات من القرن المنصرم.
كانت صيدا نموذجاً لما كان عليه لبنان. كانت ضيعة رحبانية.
حضنتنا، وكنا بين الثانية عشرة والعشرين من العمر، في منازلها الدافئة. أخذت بيدنا في أزقتها المسقوفة والمتقاطعة، التي تسهّل علينا التجوّل في جميع أحيائها، في «مار نقولا» وحي اليهود، في الزويتيني و«رجال الأربعين»، في السبيل والكنان، في السرايا والكشك، من دون أن ينال منا التعب.
خصصت لنا صيدا قلعتين لحراستنا، وعلقت أسماء بواباتها حرزاً على زنودنا.
وبعدما اشتدّ عودنا أطلقتنا في أحيائها البعيدة خارج السور، في أحياء الدكرمان، في السكندراني ونزلة صيدون والبرغوت والفواخير والصباغ والبعاصيري والقناية، في الوسطاني، أبو اللطف، الشمعون، مكسر العبد والقياعة. أطلقتنا بين بساتين الموز والحمضيات والاكي دنيا في فضاءات عابقة بزهر الليمون.
جمعتنا صيدا في مدارسها. في «المقاصد» و«الإنجيلية»، في «الفرير» و«الراهبات»، في تكميلية الصبيان (محمود حشيشو)، وفي تكميلية البنات (أنجليك صليبا)، في «ثانوية الزعتري للصبيان»، في ثانوية البنات (حكمت صباغ) وفي دار المعلمين والمعلمات (نزيه الخطيب). جمعتنا في «الجامع العمري» وفي «حسينية البوابة الفوقا»، في الكنيسة الأرثوذكسية قرب سوق النجارين، في الكنيسة الكاثوليكية وفي الكنيسة المارونية، في شارع المطران وفي شارع الأوقاف، في سينما الحمرا وفي سينما الامبير، في الهيلتون والريفولي والكابيتول.
يقولون لي: المدينة أصبحت في مكان آخر، لماذا لا تنقل مكتبك، لماذا لا تلحق المدينة؟
يلعب القدر لعبته، وقد دار الزمن دورة كبيرة وأعادني إلى أقرب نقطة من المكان الذي نزلت فيه أول عهدي بصيدا. ولم أستطع بعدها مبارحة هذا المكان. أسأل نفسي: هل أنا أقرب إلى صيدا الستينيات من أي زمن آخر، صيدا الأقرب إلى روح الميثاق الذي قام عليه لبنان؟

حسين حرب

(كاتب بالعدل)

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا