×

قصص من طرابلس التي لم يتسن لها البكاء

التصنيف: Old Archive

2013-08-26  09:50 ص  626

 

 كارول كرباج

اعتادت مدينة طرابلس أن تعيش ازدواجية الصورة. مشهد زعمائها ومسلحيها ومتطرفيها، من جهة، ومشهد سكانّها الفقراء منهم والميسورين، من جهة أخرى. واعتادت كذلك محاولات اختصارها بالمشهد الأول، التحريض والتطرّف. 
صمدت تلك الازدواجية أمام الانفجارين. وقد احتل نافذو المدينة، السياسيون منهم والميدانيون، الواجهة كالمعتاد. فيما هُمّش، سكانها ومعهم قصصهم المروّعة. وظل «الفاعلون الآخرون» في كواليس المشهد، يلملمون أشلاء المدينة وسكانها بصمت.
[[[
يجلس أحد المسعفين على كرسيّ في مقر «الصليب الأحمر»، تظهر ملامح التعب عليه عند انتهاء عمليات الإنقاذ. يرفض التحدّث، ويكتفيّ بالقول «مش قادر إحكي، المشاهد أبشع من أنو إقدر أنقلها». 
يغرق في الصمت، وكأنه يستجمع ما رأته عيناه ولمسته يداه في ذاك اليوم الداميّ، ويسأل بغضب: «عن ماذا تريدونني أن أتحدث؟ عن جثث الأطفال المتفحمة؟ أم عن هياكل سيارة تطايرت فوق سطح مبنى؟». ويتابع طرح أسئلته كالرشقات النارية: «أتريدون أن أحدثكم عن مسلحين طردوا عناصر الجيش والقوى الأمنية من ساحة التفجير في مسجد التقوى؟ أم عن حال الهرج والمرج خلال عمليات الإنقاذ في غياب أي طوق أمنيّ في محيط المسجد؟». 
يلتقط الشاب أنفاسه ويقول بوجه متجهم: «في العادة، نعمل على انتشال الجثث والجرحى بعد تطويق المكان أمنياً، لكننا اضطررنا هذه المرة للعمل بشكل مختلف». يحكي أنه نتيجة الفوضى كانوا يجمعون أشلاء جثث تعود إلى أشخاص عدة في كيس واحد. كانت تُنتشل الجثث كما تُدفن دفعة واحدة بعد مجزرة، وكأن كل كيس تحوّل إلى مقبرة جماعية.
[[[
كان يوم إجازتها، لكنها وجدت نفسها من دون تفكير أمام بوابة «المستشفى الإسلامي» حيث تعمل كممرضة. شهدت تلك المستشفى على جراح المدينة، مرّت عليها مجزرة التبانة في الثمانينات، ومعاركها المتكررة مع جبل محسن منذ 2008. 
لكنّ رائحة المستشفى كانت مختلفة يوم الانفجارين. «أنا ابنة المستشفى، وأعرف رائحتها. كانت تفوح منها رائحة الدماء، ولم أشعر بها سابقًا»، تقول بانفعال. 
سمعت صراخاً ونحيباً، ورأت عيوناً مرتبكة خائفة. «قصص أهالي الضحايا لا تحصى»، تحكي بتأثر. أمرها أحدهم، هي التي ترتدي مريلةً بيضاء، بنبرة هستيرية: «افتحي البراد، افتحيه حالاً!». ارتعبت الشابة، ولا يحق لها تنفيذ الأمر. جال الرجل مستشفيات المدينة كلها، يبحث عن جسد ابنته الصغيرة. ولم يبقَ له سوى البرادات.
تدمع وتحاول تغيير الموضوع، مركزةً على الوجه الآخر للمأساة، الوجه الآخر للمدينة. تحدثنا عن قسم «بنك الدم» الذي عجّ بالمتبرعين بالدمّ. «أمر لا يصدقّ، لأول مرة أرى هذا المشهد. أشخاص من جميع الفئات والطوائف». تضيف: «رأينا في الغرفة نفسها الفقير ابن التبانة، والمهندس الذي يقطن منطقة الضم والفرز، رأينا السوريّ والفلسطيني ايضاً». 
لا عجب، إذ لا يمكن التعايش مع مشهد كهذا، كما «تعايشت» المدينة مع معارك التبانة/جبل محسن المتكررة. ولم يكن أمام أهل المدينة سوى مشاركة دمائهم مع ضحايا كان من الممكن أن يكونوا مكانهم.
[[[
يقف عنصر قوى الأمن الداخلي خلف الشريط الأصفر الذي يحيط ساحة انفجار «مسجد السلام». يبدو منهكاً، يطلب من المواطنين، الذين يحاولون التسلّل إلى داخل الشريط عدم الدخول. «لوين؟ لو سمحت ممنوع»، لا ينفكّ يكرّر هذه الجملة. في عيونه يخبئ الرجل الكثير من الكلام. يسأله أحد الفضوليين: «صحيح أن القوى الأمنية انسحبت من مسجد التقوى؟». يهز رأسه ايجاباً. يسأله مجددا: «هل صحيح أن الناس تقوم بانتشال جثث أبنائها بنفسها؟»، يهز رأسه أيضاً، وتفلت منه الكلمات بغضب. قال: «نحن ونازلين من مقرنا في القبة، توقفنا على حاجز مسلحين. اتخايل مدني مسلح عم يطلب هوية من عنصر قوى أمن! كيف بدي حسّ بلحظّتها برأيك؟»، يعبّر العنصر بحسرة عميقة، وعيناه على الشريط الأصفر. 
يضيف: «تشعر بالإهانة والعجز طبعاً، وما فيك تعمل شي، بتسكت وبترضخ». «هيدا البلد هيك راكب!». يكبح محاولة أحدهم الدخول إلى مكان الجريمة: «لوين؟ لو سمحت ممنوع»، يلفظها بلطف. يبلع ريقه ويتابع كلامه: «انا عم اشتغل لتأمين لقمة عيشي، بس كيف بدو يكون الواحد إلو نفس يقوم بوظيفته؟».
[[[
خلال صلاة المغرب في «مسجد السلام» عشية الانفجار، وسط شظايا الزجاج المتناثرة في محيطه، وقف أشخاص يراقبون بذهول ما حلّ بمدينتهم. تتراءى لك من بعيد بقعة حمراء كأنها بحر من الدماء، تتوقع رؤيتها أمام ساحة الجريمة، لكنها ليست كذلك. تتقدم بخطوات مثقلة، ليتضح أنها طماطم. تلتفت ناحية المسجد، في محاولة لتركيب الصورة وفهمها، تلقى هياكل عربة الخضار، ولا تعرف شيئاً عن بائعها. يتقدم شاب أمام الشريط الأصفر، مُحدثاً أصواتاً جراء تحطّم الزجاج تحت قدميه. كان منهمكاً، يوزع أوراقاً بيضاء على الواقفين بين ركام الشارع المنكوب. لا تتضمن الورقة موقفا سياسياً، بل خُط عليها كلمات قليلة مقتضبة: «ألمنيوم، ستائر زجاجية وسيكوريت»، وأسفلها عنوان المصنع والهاتف، مع الإشارة إلى أن «الكفالة خمس سنوات مع صيانة مجانية». يُمسك أحدهم بالإعلان، معلقاً بسخرية وذهول معاً: «مصائب قوم عند قوم فوائد».
المشهد الأخير ليس الأكثر عبثية في مدينة تعبت من لملمة لحم أبنائها. تزامناً مع تلك المشاهد، هناك آخر لا يقلّ قساوة، وهو ماكينات التحريض والاتهامات المتبادلة التي لا تهدأ ولا ترحم أهل المدينة. هنا يشعر كثيرون أنه لم يعطَ لهم الوقت للحزن والبكاء بهدوء.
كارول كرباج

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا