×

تاريخ مدينة صيدا الحديث مع شيخ أزهري جليل رحمه الله يرويها ابنه البار الاستاذ هشام عبد السلام ادامه الله

التصنيف: تقارير

2014-09-11  08:05 م  1182

 
كتاب فيسبوك
أزهري في لبنان (الحلقة الحادية عشرة)
الأخوة الأعزاء يسعدني أن أواصل عرض مشاهد من كتابي أزهري في لبنان الذي قمت بإصداره عام 2003، وتولى توزيعه مؤسسة جريدة الأهرام المصرية
بقلم / هشام عبد السلام موسى
مشهد (لن آخذ إلا ما كتب)

كانت التيارات المعارضة للمد القومي العربي في لبنان ترصد حركة الشيخ عبد السلام، ولم يكن ذلك الأمر بعيدا عن جهاز الأمن العام اللبناني، الذي كانت كل توجهاته عموما اقليمية معاكسة لهذا التيار.
اجتماعات سرية لعناصر قومية، ومحاضرات يلقيها في منزله للتوعية والتثقيف القومي والسياسي، ومناصرة صريحة لنائب الجنوب معروف سعد صاحب الاتجاه القومي، بل وعقد جلسات التخطيط للانتخابات البرلمانية عن دائرة الجنوب في منزله، كل ذلك كان كافيا كي يسجل ضده قائمة اتهامات برر بها وزير الداخلية اللبناني أنذاك قراره بإبعاد الشيخ إلى مصر، معتبرا ذلك تدخلا في الشأن اللبناني الداخلي.
توالت الأحداث إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958م، وغادر الشيخ لبنان على عَجَل، مخلفا وراءه متاعه الشخصي، وكل محتويات منزله، على اعتبار أنه وضعا مؤقتا، وكان الموسم صيف وقتها، غير أن الأمور استمرت فترة أطول مما يجب، ودخل موسم الشتاء، ولازال الشيخ في مصر، وقد اضطر إلى تسجيل أولاده في المدارس المصرية متأخرا عن بداية الموسم الدراسي، وفي نفس الوقت كان في حاجة ماسة لأمتعته الشخصية له ولأسرته التي خلفها وراءه.
ولم يجد الشيخ بدا من أن يرسل برسالة إلى صديق عمره الحاج/ أبو حسن بطاح يطلب منه أن يرسل إليه بمتعلقاته الشخصية من ملابس وغيره.
بادر أبو حسن إلى استئجار مركب صغير من صيدا، وحمله بكل ما وجده في منزل الشيخ، ليس الملابس فقط كما طلب الشيخ، بل بكل الفرش والمتاع، وطلب إلى صاحب السفينة أن يحمل هذه الأشياء ويوصلها إلى ميناء دمياط الميناء المصري الأقرب للساحل اللبناني، وأعطاه عنوان الشيخ في مصر.
بعد أيام قليلة تسلم الشيخ برقية من دمياط مفادها (أن لكم أشياء موجودة في الميناء وعليكم الحضور لاستلامها)، وكان هذا نص الرسالة التي أبرق بها البحار بمجرد وصوله إلى دمياط، فهم الشيخ بالسفر إلى دمياط، التي لا تبعد كثيرا عن مدينة المنصورة حيث كان يقطن الشيخ، وعندما وصل الميناء، وجد ذلك البحار الذي كان يعرفه من صيدا، ووجد عنده على ظهر المركب كل أثاث بيته وما خلفه وراءه.
أراد الشيخ أن يعرف أجر البحار نظير قيامه بهذه المهمة، وسأله: فقال له البحار: إن أبو حسن بطاح يرسل لك هذه الرسالة وفيها قيمة الاتفاق بيني وبينه، ففض الشيخ الرسالة، فوجد أن أبو حسن قد استأجر المركب بما قيمته خمسة عشر جنيها لا غير، وقد بدت تلك القيمة زهيدة جدا في حينها، مقارنة بالشاحنة التي استأجرها الشيخ لتنقل تلك الأغراض إلى المنصورة، والتي لا تبعد سوى ستون كيلومترا، ورغم ذلك أبى سائقها أن يتقاضى أقل من ثلاثون جنيها!!. وأراد الشيخ أن يزيد البحار شيئا من المال، فأبى بشدة وقال: لن آخذ إلا ما كتب!!.
فقال له الشيخ، وهل من خدمة أخدمك بها، فقال البحار: إنني سوف أبحر عائدا ومركبي فارغة، فهلا دللتني على من يبيع لي (قش الكرونة)، وكان قش الكرونة هذا -كما يسمونه- يستخدم في عمل الحشوات للمقاعد، والصالونات وغيرها، وكان غالي الثمن في لبنان، مقارنة برخص ثمنه كثيرا في دمياط المشهورة بإنتاجه، وإنتاج الأثاث المنزلي الخشبي، فاشترى له الشيخ حمولة مركبه (قش كرونة)، وهي بضاعة تشغل حيزا كبيرا وتزن قليلا، ومنحها للبحار هدية منه جزاء أمانته، وشهامته.
لم يمض بعد هذه الواقعة وقت قليل؛ حتى توقفت الحرب الأهلية، وطالب أهل صيدا بعودة الشيخ مرة أخرى إليهم، وكانت إرادتهم أكبر من كل المؤامرات التي حيكت لإبعاده. فعاد الشيخ معززا مكرما، وكانت تلك حلقة من حلقات المد والجزر، والابتعاث والإلغاء، التي شهدها الشيخ خلال مدة خدمته في لبنان التي طالت فترة اثنان وعشرين عاما، تخللها ستة عشر قرارا بإلغاء الابتعاث، وإعادة الابتعاث مرة أخرى، من بينها ثلاثة قرارات جمهورية بإعادة ابتعاثة في عهد كل من الزعيم جمال عبد الناصر، والرئيس السادات.

مشهد (نديم الجسر يحكي قصة الإيمان)

في يوم جمعة من عام 1963م، كان الشيخ يخطب الجمعة في مسجد الزعتري بصيدا، وكان موضوع الخطبة حول الإيمان بين العلم والقرآن، وتجلى الشيخ في خطبته وأفاض، وتصادف أن كان من بين المصلين أحد المشايخ اللبنانيين؛ الذي ما إن انتهى الشيخ من الخطبة والصلاة حتى تقدم نحوه ذلك الشيخ اللبناني ليسلم عليه، ويشد على يديه ويدعو له، ثم قال للشيخ: أنا نديم الجسر مفتي طرابلس، وأود لو سمحت أن نجلس سويا، فرحب الشيخ به وأومأ بالإيجاب، وبعد أن سلم عليه المصلين كعادتهم عقب كل صلاة جمعة، اصطحب الشيخ ضيفه معه إلى المنزل لتناول الغذاء سويا، والاستماع إليه.
قال الشيخ نديم: أنا جد سعيد لما سمعته اليوم في خطبتك الرائعة التي أكاد أتفق معك في كل ما قلته فيها، بل إن هناك توارد في الخواطر بين ما قلته، وبين ما أوردته في كتاب لي قد أصدرته مؤخرا بعنوان (قصة الإيمان)، واسمح لي أن أهديك نسخة منه، وقدمها للشيخ بعد أن أخرج قلمه وكتب عليه إهداء رقيقا.
وواصل الشيخ نديم حديثه قائلا: إن هذا الكتاب ليس لي فيه من فضل سوى ترجمته من اللغة الأردية إلى العربية، وقد أوصله إلى يدي طالب علم طاعن في السن أملاه عليه شيخه في (خرتنك) في طاجكستان حيث قبر الإمام البخاري يحكي فيه هذا الطالب رحلته في السعي للإيمان والهدى، وكيف أن شيخه أخذه إلى سلم الإيمان درجة درجة؛ حتى بعد أن أتم عليه دروسه وإملاآته، وقبيل وفاته قال له إن ما أملاه عليه من علم قد أخذه عن شيخ يُدعى عبد الله الجسر ، ويقيم في لبنان في بلدة كذا، وأوصاه أن يعمل على نشر ما وصل إليه من علم لينتفع به الناس، ومات الشيخ المعلم.
بلغ طالب العلم من العمر أرذله، وأراد أن يحج بيت الله الحرام، وأراد قبيل ذلك في طريقه أن يزور شيخ شيخه عبد الله الجسر، ولما وصل البلدة سأل عنه فقال له الناس إنه قد لاقى ربه، فسأل عن قبره ليزوره، فدلوه على مكان المقابر، فذهب ليبحث عن قبره فوجدني هناك فسألني أتعرف قبر الشيخ عبد الله الجسر؟، فقلت له: هذا هو، وأنا ابنه، فضمني إلى صدره وأجهش بالبكاء، وحكى لي ما كان من أمره، فأخذته معي إلى الدار وأكرمته، فقال لي: يابن معلمي إنني كما ترى طاعن في السن، وقد عزمت على الحج، ولعلي لا أعود منه حيا، فاحمل عني أمانتي، وانشرها على الناس، وبعد أن قضى بيننا بضعة أيام غادرنا إلى الأراضي المقدسة حاجا، وقد أوصيت به بعض الحجاج الذين خرجوا من بلدنا، ويبدوا أن الرجل قد صدق حدسه بدنو أجله فمات محرما؛ كما أبلغني مرافقوه بعد عودتهم.
وظلت تلك اللفائف وديعة لدي، وكانت مكتوبة باللغة الأردية، فعكفت على تعلمها فترة من الزمن، ثم قمت بترجمة محتواها بعد ذلك، ونشرته في ذلك الكتاب الذي بين يديك، وطبعت منه أربعة آلاف نسخة على نفقتي الخاصة توزع كهدايا أحتسب فيها الأجر عند الله.
وكان حقا كتابا شيقا كتب بلغة سهلة ميسرة، تناول أعقد المسائل الفلسفية والجدلية ببساطة ووضوح وسهولة طرح وتناول، ولا يملك من يبدأ في قراءته إلا أن يجهز عليه رغم صفحاته التي تقارب الأربعمائة صفحة.
تواصلت اللقاءات بعد ذلك بين الشيخ عبد السلام والشيخ نديم الجسر، ومع كل لقاء تزيد المودة والمحبة وتعمق الصداقة والأخوة.
مرت سنون على تلك العلاقة، وعاد الشيخ إلى مصر، وعاد إلى عمله آنذاك شيخا لمعهد المنصورة الديني، وذات يوم من عام 1970م، وكان الشيخ يقضي إجازته السنوية في بيته بالمنصورة؛ جاءه هاتف من المعهد الديني من أحد زملائه يقول له إن لديهم في المعهد شيخ من لبنان أتى لزيارة المعهد، ونظرا لأنك عشت هناك طويلا رأينا أن نتصل بك فلعلك تأتي لمقابلته، فذهب الشيخ مباشرة إلى المعهد، ولما دخل مكتبه كانت المفاجأة إنه الشيخ نديم الجسر، وتعجب الواقفون من هذا اللقاء الحار بينهم، وبعد أن قضى الضيف جولة في المعهد الديني الأزهري اصطحبه الشيخ ضيفا عليه، فقضى معه يوما أو نحو ذلك، وقال له: إنني كنت هنا عابر سبيل لأتعرف على مدينتكم الجميلة، ولم أكن أعلم أنك فيها، ولفت نظري لافتة المعهد الديني، فأردت أن أزور هذه المؤسسة الإسلامية لأتعرف على الدور الذي تقوم به، فإذ بك أمامي، ويالها من صدفة حسنة أن ألقاك هنا.
غادر الشيخ نديم المنصورة متوجها إلى القاهرة، ومن ثم إلى لبنان، وكما كانت بداية علاقته بالشيخ عبد السلام صدفة في مسجد الزعتري، كان آخر عهدهما ببعضهما صدفة أيضا في معهد المنصورة الديني؛ حيث لم يلتقيا بعدها أبدا، لكن كتاب قصة الإيمان ظل في مكتبة الشيخ عبد السلام يعيره لكل من يتوسم فيه الخير، وينصح لأولاده بقراءته. وصدق الرسول الكريم حين قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له، وصدقة جارية صدق رسول الله. وهكذا كانت قصة الإيمان علم تناقل من شخص إلى شخص، ومن مكان إلى مكان، ورحم الله الجميع.

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا