×

يهجرون البطاطا إلى الحشائش.. مكرهين

التصنيف: Old Archive

2009-09-30  05:45 ص  2202

 

 

سامر الحسيني

بعد ثلاثين سنة من زراعة البطاطا في سهل البقاع، يلملم المزارع حسن أيوب أغراضه وأدوات حقول البطاطا ليضعها في زاوية من مخزن زراعي صغير، منتقلا إلى زراعة الحشائش والقمح بعد ان اثقلته زراعته الأولى بالديون. يصف أيوب السنوات العشرة الأخيرة بـ«العسيرة والقاحلة» بسبب الخسائر التي تسببت بفقدانه لأكثر من نصف ارضه الزراعية التي باتت ملكا لما يعرف بظاهرة المزارعين الكبار او «المزارعين التجار».
تتشابه حكاية أيوب مع قصص عشرات المزارعين البقاعيين الذين تُركوا وحدهم يواجهون الخسائر المتتالية في القطاع العابر من كارثة الى اخرى، أجبرت العديد من المزارعين على التخلي عن أراضيهم لتسديد الديون التي تراكمت عليهم بفعل خسائر المواسم المتلاحقة.
ما بين كلفة دونم البطاطا التي تتجاوز المليون ليرة والمرشحة للزيادة هذا الموسم حكما نظرا لارتفاع أسعار المازوت حيث يبلغ سعر الصفيحة (عشرين ليترا) اليوم 19 ألف و500 ليرة لبنانية، ومع الأخذ بعين الاعتبار ارتفاع سعر صرف اليورو، اختار أيوب زراعة بعض الحشائش والحبوب والخضار لأن كلفة الدونم منها لا تتجاوز الثلاثمئة ألف ليرة، وبالتالي فإن خسائرها تكون اقل إيلاماً في مقابل أرباح شبه مضمونة.
بعد سنوات من الخسائر المتتالية، تشهد زراعة البطاطا التي عرفها البقاع منذ مئات السنين، وكانت تعرف آنذاك بزراعة الفقراء، تراجعا وتهديدا حقيقيا بالاستمرار. باتت المواسم البقاعية الشهيرة حكرا على كبار المزارعين والاغنياء القادرين على استثمار مئات الدونمات وشراء اطنان البذار الغالية الثمن ومعها الأسمدة والمبيدات والأدوية الزراعية الفعالة. كما تسمح مقدرات هؤلاء بتأمين التصريف المناسب والتبريد اللازم وسواها من الكلف الانتاجية التي أدت الى افلاس مزارعي البطاطا الآخذين في النزف باستمرار في البقاع.
أمام هذه المعطيات أضحى بديهياً أن تتحول خسائر صغار المزارعين إلى نعم وأرباح لدى ما يعرف بـ«التجار المزارعين» الذين وجدوا في تخلي الدولة عن القطاع، فرصة ذهبية للاستثمار والقضاء على الصغار من أقرانهم بعد أن تحولوا إلى أجراء في أراضيهم الشاسعة والتي رووها في السنوات الماضية من تعبهم وعرق جبينهم.
وساهم غياب الدولة ومعه عراقيل التصدير والتصريف وقلة الامكانيات المالية عند غالبية المزارعين، في جعل صغار المزارعين ضحية استغلال المزارعين الكبار المتسلحين برساميل مالية ضخمة وبإمكانيات مرتاحة في التوضيب والتخزين والتصريف. ويقولب كبار المزارعين، وهم في غالبيتهم من التجار، القطاع الزراعي وفقاً لمصالحهم. يشترون المحاصيل الزراعية بأسعار متدنية بعد ان تقفل أبواب التصريف والتصدير كلها أمام مزارعي البقاع الاصليين الذين تحولوا بفضل الدولة الى لقمة سائغة وإلى أسرى رؤوس المال الكبيرة التي استفادت حصريا من كل «نعم» الدولة التي بقيت بعيدة عن اصحابها ومستحقيها الحقيقيين.
اليوم، لم يعد يتسع سهل البقاع للكثير من المزارعين. باتت أراضي هؤلاء أملاكا مسجلة حصرياً بما يعرف اليوم بمصالح زراعية تتبع أسماء مالكيها من مصالح سكاف الى الصقر الى الترشيشي والموسوي. وباتت هذه المصالح مسؤولة عن اكثر من ثلاثة ارباع مساحة البقاع الزراعية، فأصحابها يملكون براداتهم الخاصة وشركات الاستيراد والتصدير والتسويق. كما يتم الدخول إلى الأسواق العربية عبرها وإلا فدونها عقبات كثيرة تكبل ايدي المزارعين الصغار.
وتتمثل الطامة الكبرى أو «الكارثة»، كما يصفها المزارعون في كلفة الإنتاج المتصاعد سنة بعد سنة لزراعة البطاطا لا سيما في السنوات الاخيرة التي تعتبر الاغلى في تاريخ زراعة البطاطا، في مقابل انهيار في الأسعار لا مثيل له يترافق مع إقفال أبواب التصريف وتطور زراعة البطاطا في الدول التي كانت تعد من اهم اسواق التصريف للانتاج اللبناني.
ولم تشكل التباشير المائية والواعدة حول سنة مطرية حافلة بالهطولات حافزا او «امرا مشجعا»عند المزارعين للعودة الى زراعة البطاطا، فأسعار اليورو تحرق جيوب المزارعين وتثقل كاهلهم بارتفاع أعباء الانتاج ومواده الاولية حيث تعتبر كلها مستوردة من دول اوروبية. وعلى سبيل المثال فإن اسعار البذار والمبيدات الزراعية والحبوب سترتفع هذه السنة نظرا الى ارتفاع اسعار اليورو في مقابل الدولار الأميركي، وفق ما يؤكد عدد من المزارعين الذين لا يزالون على «إضرابهم المفتوح» عن زراعة البطاطا.
ويصف المزارع بسام قمر، من سهل قب الياس، التراجع في المساحات الزراعية وأعداد المزارعين بـ«الطبيعي». ويرد قمر الأمر إلى الكلفة العالية والمخاطر الكبيرة التي تحدق بهذه الزراعة سنويا، مما يدفع بعشرات المزارعين الى عدم المخاطرة والتحول الى زراعات اخرى ذات كلفة منخفضة كالحشائش والخضار والى زراعات بعلية بسبب كلفة الري العالية.
ويقدر قمر كلفة زراعة دونم البطاطا بما يزيد عن المليون ليرة إذا زادت إنتاجيته عن ألفي كيلوغرام، وترتفع الكلفة مع انخفاض الانتاج.
ويرد المزارعون الأزمة إلى الكميات الضخمة المنتجة من البطاطا في الدول المجاورة بكلفة اقل بأكثر من ثلاث مرات عن كلفة البطاطا اللبنانية. ويؤدي فارق التكلفة إلى «تكبيل» أيدي المصدرين اللبنانيين الذين يعانون أيضا من إقفال الحدود المستمر والمتعرقل مع الدول العربية والمشاكل المالية الأساسية والانخفاض المستمر في قيمة الرديات المالية التي تدفعها مؤسسة ايدال كدعم للتصدير الزراعي. وجاء شح الأمطار في العام الماضي ليزيد الطين بلة وليرغم المزارعين على زيادة ساعات الري مما رفع من كلفة الانتاج.
ويصف المزارع علي الموسوي السنوات العشر الماضية بـ«السنوات السوداء» التي حملت لمزارعي البطاطا الكثير من الكوارث والمصائب والنكبات. وبدأت المشاكل بالبذار الموبوء مروراً بغياب حوافز التصدير، وصولاً إلى الكارثة الكبيرة المتمثلة باتفاقية التيسير العربية التي أغرقت الاسواق اللبنانية بشتى اصناف المحاصيل الزراعية العربية التي لا تجد منافسا لها في لبنان.
ويعدد الموسوي أسباب تراجع زراعة البطاطا الى عوامل عدة أبرزها الري الذي يحصل في ذروة ارتفاع اسعار النفط وغلاء الوقود مع لهيب أسعار المواد الأولية وخصوصاً البذار الأوروبي وهو الأغلى في خلال السنوات الماضية. وينعكس اليورو بدوره ارتفاعا في اسعار المواد الزراعية والتوضيب والنقل وسواها، في حين بقيت أسعار البطاطا دون الكلفة.
ويعزو رئيس نقابة مزارعي البطاطا في البقاع جورج الصقر أسباب تراجع زراعة البطاطا واقتصارها على كبار المزارعين الى ارتفاع الكلفة والخسائر المتتالية التي لحقت بالمزارعين، وتحول هؤلاء إلى زراعة القمح والحشائش والزراعات الاخرى ذات الكلفة المنخفضة، عدا التطور الحاصل في الدول المجاورة على صعيد زراعة البطاطا التي كانت في السنوات العشر الماضية، محصورة بالإنتاج اللبناني.
ويحمّل الصقر الدولة وغياب السياسة الزراعية مسؤولية انهيار مزارعي البطاطا، مطالبا بإعادة العمل ببرنامج دعم «اكسبورت بلاس» على أساس الرديات المالية الكاملة وإلغاء الحسومات المالية التي وصلت الى حدود ستين بالمئة من قيمة الدعم مما يعني ان المشروع قد توقف نهائيا، حيث يحتاج ثمن المحروقات عينه إلى خمسين في المئة من الأكلاف الإنتاجية. ويؤكد الصقر على تراجع يتراوح ما بين ثلاثين إلى أربعين في المئة من المساحات الزراعية لموسم البطاطا، بسبب عدم وجود سيولة مالية لدى غالبية المزارعين، إضافة إلى النقص في الكميات المنتجة. وينعكس الأمر ارتفاعا في الاسعار انما ليس ربحا عند المزارعين، ولا يمكن القول ان هذا الموسم مميز.
ويعتبر مزارعو منطقة بعلبك من اكثر المزارعين تضررا نظرا للكلفة العلية لعملية استخراج المياه وغياب المشاريع المائية وقلة المتساقطات المطرية، مما يؤدي إلى هجر مئات العائلات والعاملين في القطاع الزراعي هذه الزراعة، حتى أن بعضهم تحول الى زراعة الممنوعات مجبورا من اجل تأمين لقمة عيش اولاده.
ويتمنى المزارع حسن مقداد ان تأتي الدولة الى بعلبك وفي جعبتها مشاريع مائية وزراعات بديلة ومدعومة لا ان تأتي بعسكر لتلف زراعة المخدرات التي يعود انتشارها كرد على إهمال الدولة للقطاع الزراعي.
ويعتبر المزارع عمر الخطيب أنّ انحباس الامطار وارتفاع اسعار اليورو من اهم اسباب تراجع زراعة البطاطا. ويرى أن التحول إلى زراعة الخضار والحشائش دونه عقبات تتمثل في استباحة الاسواق اللبنانية للسلع الزراعية المصدرة الى الاسواق اللبنانية والتي تتميز بكلف انتاجية متدنية مرات ومرات عن الكلف الانتاجية اللبنانية.
بعد سنوات العز لزراعة البطاطا في البقاع، ينتظر البقاعيون من دولتهم أن تعيد لمواسمهم بريقها وماضيها وتعيد للسهل عطاءاته وخيراته التي باتت نادرة ومحجوبة عن ابنائه

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا