×

فيروز: اعتصام أمام المتحف خطوة أولى حتى تطل في أسرع وقت

التصنيف: تقارير

2010-07-27  04:34 ص  990

 

أبلغ ما في صوت فيروز انه علمنا الصمت، بعدما حددت هي وقت طلوع النهار. هو صمت الاستماع، وخشوع الاصغاء، ورهبة الخضوع الارادي لهيبة لا تفيها كلمة حقاً. من النادر ان تنال سيدة غناء لذة الاستسلام لدى سامعيها. يسلّمون لها بقيادتهم في صيرورة المعنى، هي الناقلة اياهم الى صورة الوطن الآخر، الى الضيعة والجبل والوادي، الى الغيم والبحر والورود. لم يبق جمالٌ الا غنت له فيروز. الادق انها جمّلت لنا كل ما غنت. في خضم الحروب المشرعة ابواب الجحيم، غنت للثلج وحملت صقيعه الدافئ الينا. لبيروت المتروكة لرماد دمار ما بعد الحرب، طلع صوتها من مجسم سفينة حاملة معها عمار ما خلف البحار. سر فيروز انها حلمت لنا بوطن، وغنت له بصوت جعله اكثر واقعية من احلامنا. مع صوتها بتنا نتعرف من جديد الى كل ما هو لنا، الى أنفسنا وارضنا. من أرض الخراب في وطن مدمر طلعت "أيام اللي جايي جايي فيها الشمس مخبايي، أنت القوي أنت الغني وأنت الدني يا وطني".
على درج المتحف الوطني المختزن تاريخاً قاصراً عن ضم كل المعالم اليه، وقف امس مئات من المحبين. كانوا في صمتهم (ولو المتقطع)، مريدين لصوت حفر في الذاكرة والقلب والروح، في تفاصيل الايام وحياتها وثوانيها، في هواء الجبال وزبد الموج. بقيت فيروز السر الخفي في الحياة، والمبتغى الابعد للبحث. لا يأتي صوتها بحثاً عن الناس والدروب والاودية، بل يأتي ناقلاً كثيرين اليها. هو صلة وصلنا، بل صلة رحمنا مع حنجرتها، بكل ما تختزن من حب ودفء، من مناجاة العاشق الى قلب حبيبته، والطفل الى حضن امه، والشجرة الى جذور أرضها.
كان حضور المجتمعين بدعوة من تجمع "فيروزيون"، نقطة في بحر الصوت الآتي من مكبرات لا تضيف اليه ألقاً. هي "وسيلة نقل" لمناجاة الروح، للنهار المضاء بالكلمة والنغمة واللحن، والقلب اللاهث الى طلوع الضوء بروحها. اجتمع كثيرون، من مختلف المشارب، من العارفين بالسيدة التي قيل انها "سفيرتنا الى النجوم" (ربما كان الاجدر ان يقترن اسمها برغبة النجوم في الخشوع امام صوتها)، الى شباب لعلهم يمقتون زمناً يعيشونه بلا صوت يرتقي بهم الى شبه ما يستحقون.
الاعتصام الذي تزامن مع تجمعات مماثلة في عدد من الدول العربية، اتى ضمن "المعركة" الخارجة اخيراً الى الضوء، بين فيروز وورثة الراحل منصور الرحباني، في صراع، بصرف النظر عن حقوق طرفيه، يدفع ثمنه المحبون من سامعي الصوت ومقدري ما أبدع الاخوان، وما توجته ثالثهما. في الصور الموزعة للسيدة المكللة بتاج الملكة، وفي صوتها الصادح مقابل الاعمدة، كانت فيروز الغائبة الحاضر الاكبر. بقي صوتها الآتي يغني للوطن، الذي وضعت الفنانة جوليا السيدة فيروز في مقامه "اسكات صوتها يعني اسكات صوت لبنان. نحن هنا لا لنتضامن، بل لتعرف السيدة فيروز قديش في قلوب بتحبا وتندهلا، هي تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا". حضر كثيرون من "الجيل الصاعد"، وشباب من لبنان والعالم العربي، وممثلون وفنانون من لبنان والدول المجاورة. "بيتي انا بيتك وما الي حدا، ومن كتر ما ناديتك وسع المدى" قالتها فيروز، غير مدركة الاّ مدى يسع صوتها ولا مقدار شوق الناس لها، هي المختارة ان تبعث من فيء ظلها ضوء الحياة للملايين.
من "نحنا عم نحكي باسمنا بدنا فيروز تغني"، الى "الحق ما بموت والثالوث ما لازم ينقسم"، لافتات حملت بعضها كلمات اغنيات مضت في تاريخها لتكتب لنا حاضرنا، وابتعدت في الذاكرة لتحضر منها زاد الايام القادمة، وعبق الارث الذي لن يعود. في محصّلة المعركة، بقي الخاسر الاكبر شعب صمت مراراً ليسمع كل ما قدمه الاخوان. "هيهات ان هيهات ان يعود ما انقضى" تقولها فيروز، لكن احداً لن يمتنع عن ان يسكر بصوتها، هي التي غنت يوماً "اسكر باسمك يا لبنان".
اكثر من التزم الصمت امس كانت ابنة فيروز ريما، التي "مانعت" مراراً في التجاوب مع طالبي الكلام "اليوم للصمت". ورغم بعض الاجابات التي لم تروِ غليلاً، وزعت الرحباني بياناً جاء فيه: "بحب قدم تحية باسم فيروز وعاصي الرحباني لكل يللي شاركوا بهاليوم الفيروزي، للشباب المتحمسين لقضية فيروز ولصوتا اللي بيحبوه واللي رافقن، وبحيّي كمان كل الفيروزيين اللي قاموا بالتحرك المؤثر دعماً لفيروز وبهالاعتصامات العفوية اللي عمت العالم العربي وبلاد الاغتراب، وبحيّي كمان وسائل الاعلام على اختلافا على تغطية هالحدث. فعلاً اكتشفنا اليوم انو الفن الصادق بيجمع كل الناس وهيدا اللي قدر عملو صوت فيروز بكل العالم العربي، وأصدق صورة عنو هيّي التحرك النبيل اللي قاموا فيه ناس أوفيا للفن ولصوت فيروز ولعاصي الرحباني. واثبت هالتحرك انو ما حدا بيقدر يواجه الفن الحقيقي مهما حاول من أساليب. تحية فيروز وعاصي لكل اللي شاركوا بهاليوم الفيروزي العظيم".
وكان منظمو التجمع وزعوا بياناً باسم "لجنة تخليد فيروز والاخوين" عنوانه "البيان الاول/الاعتصام الاول"، عددوا فيه محطات "مطالبة منصور الرحباني بتقييد فيروز وحبسها (...) واولاده منعوها من الغناء وغيَّبوا اسم عاصي من القرار الوزاري، ويضللون الرأي العام بأن الحكاية خلاف على الارث"، ومنها "منع فيروز من تقديم مسرحيتها "يعيش! يعيش!" على مسرح كازينو لبنان بعد اشهر من التحضير"، طالبين من "غربة وجارة القمر، ان تطل على المسرح في اسرع وقت ممكن وليكن عيد الفطر لترد لنا كرامتنا ولتشعرنا ان الظالم لا ينتصر (...)". واشاروا الى ان اعتصام الامس سيكون خطوة اولى "في مسيرة لن تتوقف حتى الافراج عن صوت فيروز".
"فايق عليّي فايق عليّ نحنا اللي كنا بهاك العلية". من يجرؤ ان ينسى؟ نداء المعتصمين امس كان الذكرى المفتوحة على غدها، والماضي المربوط بالحاضر، والصوت الآتي من الزمن الجميل ليمسح لطفاً على مستقبل مشوب بالظلام. كانت سخرية ان يسمع معتصمو المتحف صوت فيروز يغني "مين ما كان بيتمرجل علينا/ مين ما كان بيتنمرد علينا/ بدنا نعرف شو سوينا/ لا مرة إشتكينا ولا مرة إحتجينا ولا مرة إحتدينا".
كتب الشاعر الكبير أنسي الحاج في سبعينات القرن الماضي لمناسبة تقديم فيروز "يعيش! يعيش!": "في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها". امس لم يكن من مكان لكلامنا، كل الصمت كان لفيروز، وصوتها كان أبلغ حياة.
 

كريم أبو مرعي

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا