×

يولندا قطعت المسافة من هولندا إلى لبنان: «كل ما أريده هو إيجاد والدتي

التصنيف: أمن

2010-08-09  09:55 ص  1284

 

 

ناي الراعي
صمدت الطاولة الصغيرة في مقهى شارع الحمراء، رغم الثقل الذي ألقي فوقها فجأة. صمدت، رغم التاريخ المبتور الذي تناثرت أطرافه فوق سطحها، على شكل صور قديمة، وثيقة ولادة، إخراج قيد يفيد بأن صاحبته ولدت لأب «مجهول» وأم... مجهولة أيضاً. وفوق سطحها أيضاً، وضعت شهادة طبية تفيد بأن «المولودة بصحة جيدة ولا تعاني من أي مرض معدٍ».
إلى هذه الطاولة، جلست يولندا، لتخبر أنها أتت، من هولندا إلى بيروت، لمدة أسبوع، لتبحث عن والدة حملتها تسعة أشهر في رحمها، لتهبها بعد الولادة للتبني. لا تريد يولندا شيئاً سوى إيجاد والدتها. يبدو عليها الزهد بالأمور الأخرى. يبدو ذلك جلياً في عينيها: «لا ألومها أبداً. لا بد أنها تخلت عني لأنها أرادت أن تؤمن لي مستقبلاً جيداً. كانت تفكر بسلامتي وبحياتي»، تجزم يولندا. كيف لا، ويولندا ولدت عند السابعة من صباح الرابع والعشرين من حزيران في العام 1978، وتلك كانت سنة حرب أهلية في لبنان. كيف لا، ويولندا ولدت لأب «مجهول الهوية»، بحسب شهادة ميلادها التي سجلتها القابلة القانونية محبوبة الصايغ، عند مختار محلة رأس بيروت جورج ربيز (الذي توفي وابنه). الأب مجهول الهوية، ويولندا لم تأت على ذكره في سردها لقصتها ولا مرة واحدة، إلا لتعلن ببرودة: «لا يهمني أن أجده».
في المقابل، لا يلوح الغضب في حديثها عن الوالدة. ولا الحقد: «كنت أشعر باستياء لأنني لم أرد أن أعيش بعيدة عن أمي»، تقول. وتكمل: «أمي فعلت كل ما بوسعها. كان أفضل ما يمكن أن تفعله بي نظراً لوضعها».
وضع والدة يولندا هو نقطة الانطلاق في قصتها. وهو أيضاً المحطة الوحيدة في حديث يولندا حيث تتسنى للمرء فرصة رؤية الغضب في نظراتها وحركات جسدها المضطربة: «كانت أمي عزباء حين حملت بي، ولم يكن مسموحاً لها الاحتفاظ بي من دون زوج»، تقول مستاءة. هذا الواقع كان السبب وراء رمي ملفها، وملفات سائر الأطفال اللبنانيين الذين عرضوا للتبني في تلك الفترة، من أرشيف سجلات المستشفى، إذ تمّ التأكد من صحة الوثائق من سجلات الكنائس التي سجلوا فيها. وفي حالة يولندا، وبحسب وثيقة ولادتها، كان المقصد هو الكنيسة الإنجيلية. لكنها تعود وتتفهم: «حينها، كان من الضروري محو أي أثر يدل على أسماء النساء، لكي لا تسهل ملاحقتهن ومعاقبتهن.. لكن هذا ظلم!».
كانت الوالدة المحتارة في أمرها تعلم ذلك كله. وهكذا، تركت طفلتها ماريان عند القابلة، وتركت معها «شهادة تخلية»، صرحت فيها الأم «الواجب كتمان اسمها»، تخليها عن ابنتها بكامل إرادتها. وبوساطة امرأة تحمل اسم «عدلا»، يظهر أنها عملت على إتمام عدد من عمليات التبني في تلك الفترة، سلمت القابلة الطفلة ماريان التي غيّرت عدلا اسمها ليصبح نور، إلى عائلة هولندية قدمت خصيصاً إلى بيروت لتتبنى طفلاً. وقد حرصت عدلا على قانونية العملية، لذا، قامت بزيارة الطبيبة نادرة الحداد، لتفحص الطفلة وتتأكد من صحتها، قبل تسليمها لعائلتها الجديدة.
«مكثت العائلة التي تبنتني أسبوعين في بيروت قبل سفرنا إلى هولندا، حيث غيرت والدتي اسمي هناك إلى يولندا»، تحكي الشابة التي أتمت الثانية والثلاثين من العمر في حزيران الماضي. لم تخف عائلتها الجديدة الحقيقة عليها، «لا سيما وأنني كنت سمراء بشعر اسود، ووالدي شقراوان». فحين سألت يولندا عن سبب الاختلاف، صــارحتها والدتـــها: «لم تولدي هنا، ولدت في بيروت لأم لبنانية». وتكــمل يولندا: «لكنها لم تكن تعرف أي تفصيل آخر».
تبحث بعجل في حقيبة يدها عن خريطة لبنان. تبسطها أمامها وتشير بإصبعها إلى منطقة عائشة بكار: «هنا، تركتني والدتي، في منزل القابلة». تعاود الحديث عن ظروف والدتها. لكنها هذه المرة تضيف معلومة جديدة، وكأنها تستعمل كل الحجج لتقنع محدثها بأن الوالدة كانت مرغمة على التخلص منها، رغم إرادتها: «عندي خمسة أطفال، ليسانا وعمرها ثمانية أعوام، لورا وعمرها ستة، أمبر وهي في الرابعة، وتوأم هما شارون وسارة، ولهما من العمر سنتان». تغوص مجدداً في الحقيبة وتبسط صورهن: «حين أنجبت البكر ليسانا»، تبدأ حديثها مشيرة إلى كتلة من السعادة بعينين زرقاوين: «خفت كثيراً من أن تضيع بين المولودين الجدد في المستشفى. لم أرد أن يبدلها احد بطفل آخر، وأوصيت زوجي بأن ينام إلى جانب غرفة المولودين الجدد كي يبقى إلى جانبها». لاحظت فجأة «كم كان من الصعب على أمي التخلي عني بعد تسعة أشهر من حملي داخلها»، تقول وكلماتها تقطر إحساساً عالياً في رقته.
أتت يولندا إلى بيروت، ومعها هدية صغيرة تحملها لوالدتها. تخرجها من حقيبة التاريخ، بفخر. هي تمثال صغير ليدٍ تحمل طفلاً. تحضنه كأنها تحميه إلى الأبد من كل ما يمكن أن يصيبه في المستقبل البعيد. ومع الهدية، بطاقة كتب عليها: «إلى أمي، التي أحبها كثيراً، ودائماً».
تقول: «لا أشعر بأنها ماتت. ستراني على التلفزيون. وستقرأ عني في الجريدة. ستعرف أنني أبحث عنها»، تجزم. ثم تختم حديثها: «إن دخلت أمي إلى هذه الغرفة، سأعرف إنها هي وسأتوجه إليها وأكلمها. سأشعر بها وستشعر بي. سنجد بعضنا من دون الحاجة إلى ملفات المستشفى ولا الكنيسة. سأتعرف إليها فوراً لأنها والدتي». هناك شيء ما في هذه الكلمات يمسك بسامعه، من أعلى الرقبة. كلامها يسكب في النفس سائلاً ساخناً، ليذكر المرء بأنه يعرف والدته. تلك معرفةٌ مسلّم بها وبديهية، بالنسبة إلى كثيرين. وبالنسبة إلى آخرين، تلك نعمة لا يزال يبحث عنها.
ناي الراعي

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا