يعود التأخّر في الزواج والإنجاب، في معظم الأحيان، إلى أسباب كثيرة تتعلّق بالوضع الاقتصادي الصعب من جهة، أو رغبة المرأة في التخصّص والبحث عن مهنة تكسبها مزيداً من التحرر والاستقلالية من جهة أخرى... والواقع أنّ وضع الحياة الزوجية تغيّر كثيراً خلال الأعوام الخمسين الفائتة، فما هي أبرز المتغيّرات؟
يتساءل الكثيرون عن الأسباب التي تقف وراء تأخّر الزواج، وتجعل الرجل والمرأة يفضّلان الحريّة والعزوبية على الحياة المشتركة. وكأنما يقول كل منهما باستهتار «60 سنة على الزواج».

وغالباً ما يرجع المتخصّصون في علم الاجتماع والعالمون بشؤون الاقتصاد السبب إلى الوضع الاقتصادي المتردّي وغلاء المعيشة وتغيّر العقليّة المجتمعيّة وتحرر المرأة من القيود التي كانت تكبّلها سابقاً وتخضعها لضغوط «مرهقة» و«مؤلمة» في حال لم تتزوّج. وغالباً ما كانت الشائعات ترافق كلّ امرأة قررت واختارت ألّا تتزوّج، ولكن يبدو أنّ الوضع حالياً قد تغيّر بشكل ملحوظ وبات الزواج خياراً وحقّاً.

حقائق جديدة

فقد نشر المعهد الوطني للعلوم الديموغرافية في بلجيكا دراسة حديثة عن التغييرات التي شهدتها الحياة الزوجية على مرّ 50 سنة. وتبيّن أنّ «الناس باتوا يتأخّرون في الاقدام على تلك الخطوة إن أقدموا عليها، مقارنةً بالسنوات الخمسين الفائتة». كذلك، والغريب في الأمر أنّ «الأزواج قليلاً ما يستقرّون بمفردهم في منزلهم الزوجيّ وباتوا يتشاركون المنزل مع ذويهم».

الزواج «المبكر»... حالة نادرة

ولاحظ القيّمون على التقرير أنّ «الارتباط والزواج في سنّ الـ25 بات أمراً شبه مستحيل في عصرنا هذا، وبالتالي فقد أصبح حالة نادرة جدّاً، وذلك بعكس مع كان رائجاً في سنوات ما بعد الحرب». وتبيّن أيضاً أنّ الذين ولدوا في الفترة الممتدة بين 1953 و1957 كانوا يتزوجون في سنّ مبكرة ومع بلوغهم الـ25 من العمر، بنسبة 64 في المئة في أوساط الفتيات و49 في المئة في أوساط الرجال.

وقد أراد القيّمان على الدراسة الديموغرافية الحديثة، الباحثان ويلفرايد رولت وأرنود لوليه معرفة مزيد من التغيّرات التي لحقت بالأزواج على مدى السنوات الخمسين الفائتة، فاستطلعا 7825 رجلاً وامرأة تراوحت أعمارهم بين 26 و65 سنة.

«المدني» خيار الأجيال

وبيّنت الأبحاث أنّ «الزواج لم يعد أولويّة في حياة الناس، ولذلك فإنّهم يتأخّرون في دخول القفص الذهبي وبطريقة غير منتظمة». وفي مقارنتهم وضع الزواج اليوم مع ما كان عليه منذ 50 سنة، لاحظوا أنّ 27 في المئة من الرجال الذين ولدوا في الثمانينات قد تزوّجوا في الثلاثين، وذلك مقابل 70 في المئة من رجال الخمسينات. كذلك فإنّ احتفالات الزواج لم تعد دينية على ما كانت عليه سابقاً، وبدأت تتّخذ منحىً مدنياً.

تأمين السكن... مسؤولية نسائية

كذلك، من الحقائق التي توصّل إليها الباحثان أنّ «الأزواج حالياً يترددون في السكن معاً في منزل واحد مشترك ويتأخّرون في الإقدام على تلك الخطوة مقارنةً بما كان عليه الوضع منذ خمسين عاماً».

وتطرّقا إلى السبب، فتبيّن أنّ «مستوى التعليم يؤثّر مباشرةً في هذا القرار، فالذين حازوا شهادات جامعيّة ويكملون تخصصهم العلميّ يتأخّرون في الزواج وفي العيش مع شريكتهم». ولاحظ الباحثان أنّ الرجل والمرأة كانا يسكنان معاً سابقاً وفي منزل الرجل تحديداً لسببين رئيسين هما: فارق السنّ من جهة، ودراسة المرأة من جهة أخرى.

وقد ذكرت 27 في المئة من المستطلعات و24 في المئة من الرجال المنتمين إلى الجيل الممتد بين 1978 و1982 أنّه «في حين يعمل الرجل، كانت الفتاة تكمل تخصّصها الجامعيّ، ولذلك فإنّها كانت تتّخذ من منزله مسكناً لها». ولكن في المقابل، وفي 3 في المئة من الحالات فقط «يكمل الرجل تخصّصه العلمي، في حين تعمل المرأة خارجاً وتؤمّن المسكن والمتطلّبات».

تكاثر العلاقات الغرامية والجنسية

وقارن الباحثان بين وتيرة العلاقات العاطفية والجنسيّة للنساء في القرن الحالي والسنوات الخمسين السابقة، وتبيّن أنّ «المرأة في الخمسينات كانت تكتفي بشريك واحد وترتبط بأوّل رجل تمارس معه الجنس، لكنّ الوضع ليس ذاته بالنسبة إلى ثلث النساء في القرن الحالي.

كذلك، أقرّت الأجيال الجديدة بالعيش أكثر من علاقة عاطفية مهمّة. وإجمالاً المرّة الأولى التي يقرّ فيها أفراد الأجيال الحالية بعَيشهم علاقة عاطفية تكون في المرحلة الجامعيّة، ولكن العلاقة تتّخذ منحى تجربة نمط حياة جديد أكثر منه التخطيط للزواج وعيش حياة مشتركة مع الشريك».

• إذاً، تغيّرت نظرة الرجال والنساء إلى الحياة الزوجية على مدى خمسين عاماً ولم يعد الزواج أولويّة كما كان سابقاً، ولم يعد خطوة ضرورية وإلزامية بل أصبح حقاً من المسموح ألّا يمارس. فهل تتغيّر العقليّة على مدى السنوات القادمة؟ وهل يعود الزواج فيصبح أولويّة مجدداً؟