×

جدي .. عمر من الذكريات .. عصي على النسيان

التصنيف: مختارات

2015-07-15  11:21 ص  4850

 

رأفت نعيم
احتفل العالم اواخر حزيران الماضي بعيد الجد والجدة .. كان هذا اليوم ليمر عادياً بالنسبة لي كما لكثيرين ربما لأن كثرة الأيام العالمية والأعياد والمناسبات التي يطغى الطابع الاحتفالي والفولكلوري بها على المعنى الحقيقي لتكريسها خاصة تلك المراد منها تكريم كبير في العائلة ، بما هو ايفاء اصحابها حقهم من الرعاية والاهتمام أوالاعتراف بدور وفضل لهم في سلامة الأسرة والمجتمع .
لكن وفاة جدي في ذلك اليوم ، جعلته يوما غير عادي بالنسبة لي - تاريخا جديدا للحزن – لما كان يمثله جدي لي من ذاكرة حية اعود اليها كلما شدني الحنين الى زمن الطفولة والصبا ..
قيل قديما "لا ندرك انا كبرنا الا عندما يموت كبارنا ويكبر صغارنا ".. حتى الأمس القريب وفي كل مرة كنت التقي فيها جدي ابو يوسف رحمه الله كنت ارى نفسي لا ازال طفلا بين يديه رغم اني اصبحت أبا !
هو ربما شعور كل واحد منا عندما نكون بين يدي جداتنا واجدادنا ، الذين يجسدون في علاقتهم بأحفادهم المقولة الشهيرة "أعز من الولد ولد الولد".
لكنه بالنسبة لي تجاوز هذه المقولة الى ما هو اقوى من المعزّة، بأن اصبح جدي وجدتي جزءا من ذاكرتي التي تراكمت صورا ومشاهد ومواقف وقيما تشكلت بها شخصيتي وتغذى بها حنيني لزمن الطفولة والصبا .
كنت كلما قصدت ضيعتي سلعا التي تفتحت فيها عيناي على الدنيا طفلا .. وتفتح وعيي على الحياة صبيا وشاباً .. كان اللقاء مع جدي وجدتي فرصة ثمينة لي لإستعادة ذكريات الزمن الأول الذي كان فيه كل شيء فطريا، بريئا، جميلا ، حديث الاكتشاف ..ارتبطت صورتاهما جدي بالنسبة لي بمعايشات جميلة لا زالت تضج بها ذاكرتي، ربما لأني امضيت في كنف جدتي اوقاتا اكثر مما امضيته في بيت اهلي، فكانت الطريق بين البيتين الى جانب حقول الضيعة وطبيعتها مرتع مغامراتي طفلا وساحة مشاغباتي صبياً ..وكان حضن جدتي وكنف جدي هو ملاذي حينما أُغضب والداي، يرد عني عقابا ينتظرني أو على الأقل يخففه !.
استعدت وانا اودع جدي في رحلته الأخيرة كل تلك الذكريات ومعها ما بقي محفورا في مخيلتي من قصص وحكايا كنت اغفو على صوت جدتي رحمها الله وهي تحكيها لي .. ومن مشاهدات لجدي جالسا في صومعته " غرفة صغيرة اسفل الدار " التي كان يباشر من وراء مكتب فيها عمله كمختار مستقبلا مراجعات ابناء الضيعة .. كنا نكبر امام عينيه ونرى الزمن متوقفا عنده ، الى ان بدأت تداهمه اعراض الشيخوخة ويقعده المرض ..
وحتى في عز مرضه كان جدي ينعش ذاكرتي ويعيدني الى سنوات الطفولة حين يمازحني او يتظاهر بأنه لا يعرف ابن من اكون من اولاده وعددهم 17 ، الذين عاش حتى رأى احفادهم والذين يتجاوز عددهم المائة رغم انه لم يكن يحفظ من اسمائهم سوى اسماء الأحفاد المباشرين ..  كان رحمه الله يجمع في علاقته بأحفاده بين الحزم والجدية وبين ليونة الكلام والممازحة.. مرتديا "شرواله" الفضفاض قبل ان يستبدله لاحقا بلباس عادي، جالسا على شرفة منزل العائلة مدخنا نرجيلة المدبس او النكهة ، يراقبنا ونحن نلهو ونلعب امام البيت ، نتسلق شجرة او نعتلي غصنا او نقفز من على صخرة عالية.. نعيش طفولتنا مطمئنين الى مظلة الأمان التي يوفرها لنا الجد والجدة والتآلف مع المكان والناس، ورحابة الضيعة الصغيرة على اتساعها ، الكبيرة على اكتشافنا لمعالمها ..
حين توفيت جدتي قبل تسع سنوات شعرت انني فقدت ظهرا وسندا وحضنا دافئا كان يمدني بالحنان ويمنحني اماناً وقوة وثقة بالنفس .. وحين مات جدي .. شعرت اني اتصفح برحيله كتاباً حافلا بأحداث ومحطات ومواقف راكمتها سنواته الـسبع والتسعون، فصل من هذا الكتاب كان يعنيني بالمباشر.. هو فصل ذكرياتي التي كان يشغل وجدتي الحيز الأكبر منها .. فأصبحا ذكرى جميلة عصية على النسيان .. رحمهما الله .
 

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا