×

صيدا تحتفل بعيد ميلاد العذراء: في مغدوشة حيث انتظرت مريم عودة ابنها

التصنيف: Old Archive

2010-09-14  03:33 م  3404

 

النشرة  مارسيل عيراني

عاشت مريم في الخفاء إذ لم تتلق يوماً، خلال حياتها الأرضية، المدائح ولم تبغِ المجد الأرضي، فكانت إلى جانب المسيح الطفل، وحفظت كل أسرار هذه الطفولة في قلبها، ولكن، أمام المعجزات الكبرى، باستثناء الأعجوبة الأولى وهي أعجوبة قانا الجليل، كانت متخفية دائماً، إذ "غابت عن هتافات الجماهير في أورشليم، عندما كان المسيح - راكباً جحشاً صغيراً - يحتفى به كملك، فلم تكن مريم هناك. لكننا نجدها قرب الصليب، عندما هرب الجميع. هذا التصرف له نكهة طبيعية خاصة بعظمة وعمق وقداسة نفسها"، بحسب ما لاحظ القديس خوسيماريا اسكريفا في كتابه "عندما يمر المسيح".
ولكن، رغم ذلك، فإن التقليد الكنسي يؤكد أن العذراء القديسة كانت ترافق ابنها في رحلاته التبشيرية، وكانت دائماً إلى جانبه، تنتظر مجيئه إليها ليرتاح بعد رحلاته الطويلة.
وفي لبنان مقام للقديسة مريم، يجسد صورة العذراء التي تنتظر ابنها، وهو مقام سيدة مغدوشة المعروف بـ"سيدة المنطرة".
وتقع مغارة المنطرة جنوب شرقي صيدا على مدخل بلدة مغدوشة. فبعد أن يقطع الزائر مسافة قصيرة على الطريق المؤدية من صيدا إلى صور والمحاذية للبحر، يتجه شرقاً ويصل بعد دقائق إلى ساحة واسعة: إنها ساحة المنطرة.


وبحسب التقليد، فإن جذور هذا المقام تمتد إلى بدايات ظهور المسيحية. فإن السيد المسيح، بحسب الإنجيل، بشر في نواحي صور وصيدا، وكان معروفا على الساحل الفينيقي بحيث أكد الإنجيلي لوقا أن "يسوع وقف في موضع سهل، هو وجماعة من تلاميذه، وجمهور كبير من الشعب، من كل اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، ممن جاؤوا ليستمعوا إليه وبيرأوا من أمراضهم".
وفي حديث مع الأرشمندريت سمير نهرا، أكد لنا أن "مريم كانت المرافقة الدائمة ليسوع في رحلاته التبشيرية مع تلاميذه، لان التلاميذ تركوا عائلاتهم وتركوا كل شيء وتبعوه. فكانت هي ترافقهم وتساعدهم في الحاجات اليومية. فيجب ألا ننسى يسوع الإنسان".
وأردف أنه كان هنالك رومانية من الجليل إلى صيدا، وكانت تمر بقرب بلدة صغيرة قرب صيدا فيها مغارة، مؤكداً أن العذراء سكنت في المغارة أثناء إعلان البشرى ولم تدخل المدينة لسببين:
"أولاً، لأن مريم امرأة يهودية ممتلئة نعمة وقداستها كاملة، وصيدا كانت آنذاك مدينة كنعانية وثنية. وثانياً، لأنه كان ممنوع على المرأة أن تدخل بمجتمع للرجال، فكانت مريم وبعض النسوة ينتظرن يسوع في مغارة خارج المدينة.
وبحسب التقليد، فإن مريم أمضت ساعات وهي تصلي في المغارة وتنتظر عودة ابنها من مهمته التبشيرية.
ولهذا السبب دعيت المغارة، مغارة المنطرة، لأن هذه اللفظة تعني في العامية "محل الإنتظار".
ولكن، ما هو الإثبات على أنها كانت في تلك المغارة بالتحديد التي تحولت اليوم إلى مقام لطلب شفاعة العذراء مريم؟ وكيف تم اكتشاف هذا المكان وتحويله إلى مزار كبير: فإلى جانب المغارة الصغيرة أضيف برج عال وكاتدرائية واسعة قيد الإنشاء ودرب للمشاة يجسد الحقبات التي يتحدث عنها الكتاب المقدس ويتطرق فيها إلى ذكر لبنان.
في الواقع، ومنذ 300 عاماً، أيام الشهابيين، عاد المسيحيون إلى صيدا وبقيت بذاكرة الأجيال، المغارة الموجودة في المنطقة. وفي أحد الأيام من العام 1726، كان أحد الرعاة يرعى الماعز على هضبة مغدوشة، إذ إن التلة كانت مرعى خصيب. وعندما كان يجول حولها، سمع ثغاء جدي من بعيد، فأسرع إليه ولكن الجدي كان قد سقط في حفرة عميقة ولا مجال للوصول إليه. فبدأ الراعي بقطع العليق محاولاً بذلك إيجاد طريق للوصول إلى البئر، فوجد باباً ضيقاً، دخل زحفاً إلى المكان، فرأى بصيص نور في ظلمى المكان - وهو نور الحفرة التي سقط منها الجدي - وكانت المفاجأة الكبيرة، إذ رأى صورة للعذراء موضوعة على مذبح. وهي صورة تعود للقرون الأولى للمسيحية وقد وضعها المسيحيون الأوائل بحسب الأرشمندريت نهرا.
وإثر ذلك، أسرع الراعي إلى البلدة وأخبر الأهالي وكاهن الرعية بما رآه، وبدوره أخبر الكاهن راعي أبرشية صيدا للروم الكاثوليك آنذاك المطران اغناطيوس البيروتي، وكان آنذاك البطريرك كرلس طاناس في زيارة للأبرشية أيضاً، فعلم كلاهما بالأمر، وأسرعا إلى البلدة وأمرا على الفور بأن يجدد المركز للتكريم لوالدة الإله وطلب شفاعتها.
وبدأ الناس منذ ذلك الحين يتوافدون بكثرة إلى هذا المكان من كل أنحاء البلاد حاملين في قلوبهم شتى الأماني والصلوات، وبدأت العجائب تظهر هناك بكثرة، حتى سميت المغارة بمغارة المنطرة العجائبية.
فكرة التمثال والبازيليك و"درب المزار"
سرعان ما امتدت شهرة هذا المقام، وتوسعت في بلدان عدة، فكان من الضروري أيضاً أن يرافق ذلك توسيع للمكان.
وبدأت الفكرة مع المطران باسيليوس خوري، الذي نادى عام 1947 أبناء أبرشيته وحدثهم عن حلمه بإنشاء برج كبير يعلوه تمثال للعذراء قرب المغارة العجائبية. وفي بادئ الأمر كانت الأموال غير كافية للبدء بالمشروع، ولكن العراقيل المادية سرعان ما تحلحلت شيئاً فشيئاً وبدأ العمل الفعلي على تأسيس البرج عام 1960 من خلال فتح الباب للتبرعات.
وبعد إنجاز المرحلة الأولى من المشروع، سافر المطران خوري إلى إيطاليا لإختيار التمثال، فتحدث إلى عدد من المتخصصين في هذا المجال، وفي ربيع العام 1963 وصل التمثال، ورفع على البرج الذي يبلغ علوّه الـ80 متراً.
وخلال الحرب اللبنانية، تعرض التمثال إلى تشوهات كثيرة واخترقه 200 ثقب جراء المعارك التي شهدتها المنطقة، خصوصاً تلك التي جرت عام 1986. فشرع المطران جورج كويتر بترميمه وبترميم الكابيلا في أسفل البرج أيضاً حيث وضعت لوحة زيتية تمثل العذراء الجالسة عند مدخل المغارة وفي الأسفل يشاهد المسيح وهو يضع يده على رأس ابنة الكنعانية في صيدا ويشفيها، وفي الجانب الأيمن، صورة راعي القطيع الذي يحمل على كتفيه الجدي الذي سقط في بئر المغارة.
وفي إطار حملة الترميم، استقدم المطران كويتر من إيطاليا تمثالا للعذراء جالسة على مدخل المغارة تنتظر ابنها العائد من صيدا، واشترى مساحات واسعة في جوار المقام (حوالي 30 ألف متر مربع) بهدف توسيع حرمها ومنعا لقيام أي بناء لا يتلاءم مع أهداف المقام.
فراودت المسؤولين عن المكان بعد بضعة أعوام فكرة إنشاء "درب المزار". وهي فكرة حديثة، بدأت عام 1999. والدرب كناية عن محطات، في كل منها مشهد منحوت على لوحة حجرية تمثل حدثا مذكورا في الكتاب المقدس جرى في لبنان، وموزعة على مسافة 300 متر.
عدد المحطات 10، وهي على الشكل التالي:
1) محطة سليمان الملك وهو يبني هيكل أورشليم من أرز الباروك.
2) محطة النبي إيليا عند أرملة الصرفند.
3) محطة النبي يونان يلفظه الحوت في بلدة الجيّة.
4) محطة معجزة الخمر في عرس قانا الجليل.
5) محطة يسوع يشفي ابنة المرأة الكنعانية.
6) محطة العذراء مريم تنتظر ابنها يسوع في مغارة المنطرة
7) محطة يسوع يسلم مفاتيح الكنيسة للقديس بطرس في بلدة بانياس (مرجعيون حالياً)
8) محطة يسوع يتجلى على جبل الشيخ (جبل حرمون)
9) محطة الرسول توما يبشر في مدينة صيدا
10) محطة الرسول بولس يزور مدينة صيدا
وأضيفت إلى هذه المحطات محطتان: الأولى تحمل رسوم بعض القديسين اللبنانيين الذين لمعوا في العصر الحاضر لتظهر أن لبنان هو ارض مقدسة يعطي قديسين. والمحطة الثانية، تحمل خريطة لبنان وصورة البابا يوحنا بولس الثاني مع كلمته التي أطلقها سنة 1989: "لبنان هو أكثر من بلد، لبنان رسالة".
وإلى جانب هذا الدرب، فرضت ظروف المقام نفسه إنشاء بازيليك كبيرة، فبدأ العمل على إنشائها منذ سنوات. وأكد لنا الأرشمندريت نهرا في هذا الإطار أن " البازيليك كانت حاجة ملحة نظراً لتوافد المؤمنين، والأيقونات التي فيها أيقونات ضخمة"، مشيراً إلى أنه "لتسهيل الأمور على الزورا، تم بناء كافيتيريا ومكان لشراء التذكارات وساحات واسعة تستوعب الألوف من المصلين".
وتتسع البازيليك لـ1000 مقعد، ولا زال المشروع قيد الإنجاز، وقد بدأ المسؤولون منذ بضعة أعوام بحملة لتمويله.
عيد سيدة مغدوشة
يحتفل بعيد سيدة مغدوشة في الـ8 من أيلول، وهو يوم خصصته الكنيسة للإحتفال بعيد مولد العذراء مريم "السلطانة التي حبل بها بلا دنس".
وتجدر الإشارة إلى أن الكنيسة الجامِعة المقدَّسة لا تعيِّد لميلاد أحد من القديسين سِوى للقدِّيسَة مريَم البَتول (8 أيلول) ويوحنا المعمدان (24 حزيران) لأنَّ في ولادتهما تدخل مباشر من قبل الله من خلال ملائكته.
وبحسب السنكسار الماروني، فإن الكنيسة تعلّم ان "مريم حُبلَ بها منزهة عن وصمة الخطيئة الاصلية فخرجت من يد الله تحفة الكون، لا عيب فيها، كما ناداها من وراء الاجيال نشيدُ الاناشيد:" كلك جميلة، يا خليلتي، ولا عيب فيك".
وعيد ميلاد العذراء هذا قد انتشر في الكنيسة شرقاً وغرباً منذ القرن السابع. وقد عززه البابا زخيا السابع والبابا غريغوريوس الحادي عشر واوربانوس السادس في اواخر القرن الرابع عشر.
وتعود تاريخيَّة هذا العيد إلى إيمان المؤمنين وتكريمهم للعذارء، إذ نجد تكريم ميلاد البتول في التقويم الكنسي للكنيسة الأولى في 8 أيلول وهو التاريخ الذي تحتفل به كنيستنا اليوم. وهذا دليل على أنه كان موجودا قبل انعقاد المجمع المسكوني الرابع.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكنيسة في أورشليم كانت تعيده منذ القدم. ففي القرن الرابع الميلادي شيَّدت القديسة هيلانة كنيسة على شرف ميلاد العذراء القدِّيسَة وسمِّيَت: "كنيسة القديسة مريم حيث ولدت".
وبميلاد العذراء، مثال للانفِتاح على أنوار الروح، لذلك هي "الممتلئة نعمة" و"الربُّ معها" و"المباركة بين النساء". ولذلك هي بالنسبة للمسيحيين، إبنة الآب، أم الإبن، وعروسة الروح القدس.
وفي إطار هذا العيد، قال المطران باسيليوس خوري في أحد خطبه: "يذكر شيوخنا ونحن الكهول لا ننسى أنه من زمن بعيد كان يقام في الثامن من أيلول، من كل سنة، عيد حافل لسيدة المنطرة يجمع حشدا كبيرا من المسيحيين والمسلمين، وكثيرون منهم كانوا يأتون من أماكن بعيدة مستخفين بوعورة الطريق وطولها، وأنه بعد إكمال المراسيم الدينية كان يودع العيد بألعاب الفروسية وسباق الخيل، وقد يكون بين الحاضرين من اشترك بهذه الألعاب ولا يزال يذكر فرسه الأصيلة، مفضلا إياها على أفخر سيارة عصرية. ثم دار الزمان دورته، وتغيرت الظروف، فكان لا بد من تغيير طريقة الإحتفال بالعيد ونوع التعبير عما تكنه القلوب المؤمنة لسيدة العالمين، أم الله البتول، من محبة وإجلال. لقد عمل المرحومون أسلافنا ونحن عملنا بعدهم على جعل عيد سيدة المنطرة عيداً دينيا صرفاً، لا يشوب حفلاته ما يشوش خشوع الإيمان والتقوى، أو يفسح مجالا لشذوذ يتنافى والعبادة الحقيقية لله والإكرام اللائق بالعذراء الكلية القداسة".
وهذا العام، بدأ الإحتفال بعيد ميلاد السيدة العذراء في مغدوشة منذ الأول من أيلول الجاري، ويمتد الإحتفال حتى الثامن منه، على أن تكون مواعيد الإحتفال بالقداس الإلهي ليلة العيد ويوم العيد على الشكل التالي:
في السابع من أيلول، قداس عند الساعة السادسة مساء، يليه صلاة الغروب في كنيسة الرعية وزياح بالمشاعل نحو المقام. وعند الثامنة والنصف مساً، قداس إلهي يترأسه راعي الأبرشية المطران إيلي بشارة الحداد. وعند الساعة الـ10 والـ11:30 مساءً قداسين احتفاليين أيضاً يليهما سهرة احتفالية.
أما يوم الأربعاء في الثامن من أيلول، فإن القداديس هي عند الساعة الـ8:30 ، والـ10، والـ11:30 من قبل الظهر، أما بعد الظهر، وتحديداً عند الـ4:30، فسيتلو القداس رتبة مسحة الزيت على نية المرضى، وعند السادسة مساءً قداس إلهي أيضاً مع زياح.
لم تضغ الكنيسة بالصدفة أعياداً عدة للتأمل بنقاوة وقداسة العذراء مريم، وهي تدعونا للتشبه من خلال صلاتها وتأملها الدائم وحبها الكبير للمسيح ووفائها لـ"النعم" التي قالتها للملاك حتى آخر لحظة من حياتها.
وهي اليوم، تنتظر أبناءها كما انتظرت إبنها يسوع، في أرض زارتها وأحبتها وتشبهت بصلابتها حتى ارتفعت إلى السماء كـ"أرز لبنان".
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المزار الذي وضعته وزارة السياحة على قائمة المقامات الروحية السياحية والأثرية في لبنان، يفتح أبوابه من الـ6 صباحا وحتى الـ8 ليلاً.

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا