×

هل الزواج وجع رأس وتعب دماغ ؟

التصنيف: نسوان

2021-11-14  08:57 م  478

 


قصة جميلة يرويها الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:

يقول : زارني من يومين شاب من أقربائنا، يحمل شهادة عالية، ويملك مُرَتًّبًا كبيرًا، وهو صحيح الجسم حسَن الخلق، قد قارب الثلاثين من عمره ولا يزال عزباً.
فقلت له وأنا أحدثه: لماذا لا تتزوج؟

قال: لأني وجدت كل المتزوجين من إخواننا يَشْكون الخلاف الزوجي، ويُقاسُون آلامَه ويَتَجَرَّعون غُصَصه، ويتمنون لو أنهم ما كانوا قد تزوجوا.. فعلمت أن الزواج في هذه الأيام وجعُ رأسٍ وتعَبُ دماغ، وأنا لا أحب أن أشتري الأوجاع والمتاعب لنفسي وأدفع في ثمنها مالي!

قلت: وهل العشَرة من إخوانك الذين سألتهم هم الناس؟!
وإذا كانوا هم في تعبٍ وعناء كان المتزوجون كلهم كذلك؟! وكان الزواج وجعُ رأسٍ وتعبُ دماغ؟!
ولماذا سألتهم ولم تسألني أنا؟ إني أعرَف منهم..
وإذا كان الرجل الذي يحضر خمسة مجالس عائلية ليفصل فيها بين الزوجين المختلفين يَعُدُّ نفسه خبيراً.. فأنا قد حضرت في المحكمة أكثر من ثلاثين ألف جلسة، سمعت فيها من الزوج وسمعت من الزوجة..
وأنا -فوق ذلك- أشتغل بالتحليل النفسي والدرس الاجتماعي... فاسْألْني.

قال: ألا ترى أن أكثر المتزوجين في خلافٍ مستمر؟

قلت: أُحبّ أوّلًا أن أُحَدِّد معنى الخلاف:
فإذا كنتَ تريد (وكان إخوانك الذين سألتهم يريدون) حياةً زوجيةً خاليةً من كل اختلاف في الرأي بين الزوجين، وأن يكون العمر كله شهراً من شهور العسل، وجلسةً واحدةً من جلسات روميو وجولييت أو قيس وليلى.. فهذا لا يكون.

وماذا في مجالس الحب إلاّ هذا الكلام الفارغ؟ تقول له: «أحبك»، ويقول لها: «أحبكِ»، ويُعيدان هذه الكلمة حتى لا يبقى لها معنى، ثم يَمَلَّان ويسكتان!

ولو أن قيساً تزوج ليلى واقتصر على حديث الحب، لوقع الخلاف بينهما من أول الشهر الثاني، ولسمع الجيران خصامهما في الشهر الثالث، ولأُقيمت دعوى التفريق في المحكمة الشرعية قبل نهاية السنة!

وكل زوجين يختلفان أحياناً... حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَخْلُ بيته - وهو أشرف بيت أُقيم على ظهر الأرض- مما يكون بين النساء، وهذا هو القرآن فاقرؤوا «سورة التحريم».
والصحابة كانوا يختلفون هم ونساؤهم..

والله عز وجل لم يخلق اثنين على صورة واحدة..
وإذا أراد الزوجان والشريكان والرفيقان ألّا يختلفا، فلا بدّ لأحدهما أن يساير الآخر، وأن يخالف رأي نفسه ليتبع رأيه.. وإذا وقف كلٌّ عند رأيه لا يمكن أن يتفقا..

وكل شركة لا بدّ لها من رئيس، والرجل هو -بلا شك-
رئيس الشركة الزوجية، فيجب أن يكون رأيه هو المقدم، بشرط ألاّ يتدخل في الصغيرة والكبيرة ويَدُسّ أنفه في الكنس والطبخ وترتيب الدار...

والمرأة العاقلة هي التي تنظر ما الذي يُرضي زوجها فتفعله، وعلى الرجل كذلك أن يبتغي مَسَرَّتها ورضاها، وأَلَّا يغتَرَّ بهذه السُّلطة، ويحسب أنه صار كسرى أنوشروان، فلا يعرف إلاّ الأمر والنهي.. وألاّ يكون ظرفه ولُطفه للناس فقط، فإن في الناس من يكون خيره للغرباء وشره للأهل.

وأعرف رجلاً ما يذهب في رحلة أو نزهة إلاّ تولى هو بنفسه خدمة إخوانه كلهم، إن كانوا في مخيّم اشترى لهم اللحم والخضر وأوقد النار وطبخ لهم ووزع عليهم... وهو -مع ذلك- أكسل الناس في بيته وأشدّهم تحكُّمًا على أهله وتكليفاً لهم، لا يقوم ليملأ لنفسه كأس ماء ولا يسحب لنفسه كرسيّاً ولا يتناول رداء من الخزانة إلاّ أن تكون زوجته أو بنته قائمة بين يديه، تملأ له الكأس وتعدّ له الكرسي وتناوله الرداء!

وأعرف رجلاً ليس في الناس أكرم منه على إخوانه، يوليهم الهدايا الثمينة ويمنحهم المنح، ولا يُمسِكُ عنهم مالاً ولا ينفرد دونهم بشيء.. وهو في بيته أبخل البخلاء، يَضِنُّ على أهله بالقليل ويحرمهم ما لا بدّ منه من الضروريات.

وأعرف نساءً إن كُنَّ في استقبالٍ أو كُنَّ بين أيدي الضيوف لا تبدو من إحداهنّ كلمةً نابية، ولا تسمع منها لهجة حادَّة، ولا تمّحي عن وجهها الابتسامة العذبة، وكلما رأت منهن من قبيح تغاضت عنه واحتملته، حتى يقُلْنَ: "ما شاء الله، ما أشدّ تهذيبها وأكرم خلقها وأحلى حديثها".. وإن كانت مع زوجها لم تلقَه إلاّ بالتقطيب والعبوس، وبوجهٍ مقلوب كأنه وجه عجوز أكلت ليمونة بقشرها!

ثم إن أكثر النساء إذا خرجنَ لزيارة أو جولة، أو تهَيَّأْنَ لمُقابلةِ قريبةٍ أو صديقة، استعَدَّت إحداهنّ استعداد عروسٍ لعرسها، فتزيَّنت وتنظفت، ولبست أجمل أثوابها، وتطيبت بأعطر طيوبها..
فإذا لم يكن إلاّ زوجها خرجت عليه من المطبخ منفوشة الشعر كالِحَة الوجه، تسبقها رائحة السمن والزيت والبصل والثوم! .. مع أن حق الزوج على زوجته أكبر من حق الغريب، والعقل والدين يوجبان عليها أن تتزيّن (إن تزينت) له هو لا للناس، وأن تلقاه بأحسن أحوالها، وتّكَلِّمه بأحلى لهَجاتها، وأن تَدَّخِر له ابتسامتها ولطفها وإيناسها.
والعقل والمنطق يوجبان عليه هو (إن تكرّم) أن يكون كرمه لأهله لا للناس، وإن عمل أن يعمل لهم، وأن يخدمهم لا أن يدعهم ويخدم الناس، وإن كان خفيف الروح حاضر النكتة سريع البادرة بالخير، أن يكون لأهله الحظ الأوفى من خِفَّته ونُكتَتِه، لا أن يخص بذلك الناس وحدهم.

فكيف انقلبت الحال، فصار القريب هو المستحق للشرور كلها، وصار الغريب هو الذي ينال المحاسن كلها؟

أنا أعرف السبب أيها السامعون والسامعات؛
السبب هو: الإفراط في رفع الكُلْفة.
وأنا أعرف أن الأُلفة تُزيل الكُلفة، وأن من العجيب المضحك بلا شك أن يتعامل الزوجان بالرسميات (بالبروتوكول) الذي يكون في وزارة الخارجية، وأن تكون حياتهما كلها على «الأتيكيت»..
ولست أقصد هذا..
ولكن أقصد: أنّ رفع الكُلْفة بالمرة يؤدي إلى أن يَعرض كل واحد على الآخر ما لديه من عيوب ونقائص، لا يُحاول إخفاء شيءٍ منها..
مع أن لكل إنسان أشياء لا يَحسُن أن يُظهرها حتى لأقرب الناس إليه.. وزيادةُ القُرب حجاب (كما يقول العرب).
قَرِّبْ وجهك من رفيقك حتى لا يبقى بينك وبينه إلاّ عرض إصبع، فإنه لا يراك، وإنما يرى مكان الأنف جبلاً قائماً، في مقدمته مغارتان! ..وكذلك الناس.

كان لي صديق استمَرَّت صداقتي إياه ثلاثين سنة، وأنا لا أرى منه إلاّ خيراً، وأجده موافقي في كل شيء..
ثم سافرنا، واضطررت أن أبيت معه في غرفة واحدة، فرأيت منه في حالات أكْلِه وشُربه ونومه ووضوئه ما أيقنت معه أن بيننا من الاختلاف أكثر مما بين الليل والنهار.

بهذا وبمثله يسعد المتزوجون، ويُرغّبون الشباب العزّاب بالزواج.

من كتاب (مع الناس) أُذيعت سنة 1959

#درر_الشيخ_الدكتور_محمد_راتب_النابلسي

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا