×

تتار القرم.. بين المنفى الستاليني وأمجاد الماضي

التصنيف: تقارير

2009-10-22  12:17 م  1552

 

نشأ قوم تتار القرم على مدى قرون نتيجة التزاوج بين قبائل عديدة. وقد اكتسح هؤلاء أجزاء واسعة من آسيا وأوروبا بقيادة المغول في القرن الثالث عشر الميلادي. وامتدت سيطرتهم إلى شبه الجزيرة، بعد استيطان عائلات تتارية فيها. وقد اتخذ هؤلاء القوم من الإسلام دينا لهم في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي.

وأسس الحاج غيراي الاول في عام 1427 امارة القرم. وبعد قرن ونصف إنتقلت عاصمة الامارة  من سلاجق الى بقجة سراي. كان ذلك في عهد الخان صاحب غيراي الاول. وهكذا استمرت الامارة  حتى نهاية القرن الثامن عشر.

ويعد قصر الخان في بقجة سراي أحد معالم دولة تتار القرم التي صمدت الى حين هزيمة الجيش العثماني امام الجيش الروسي وضم شبه جزيرة القرم الى الامبراطورية الروسية.

وكان قصر الخان في بقجة سراي على مدى قرنين ونصف القرن بمثابة مركز للحياة السياسية والروحية والثقافية لدولة تتار القرم. اما اليوم فهو ليس أقل أهمية، حيث يعتبره تتار القرم أهم إرث لحضارتهم وتأريخهم. ويعني قصر بقجة سراي بلغة تتار القرم بـ"قصر الروضة" والذي يعد واحدا من أشهر المعالم السياحية ليس في شبه جزيرة القرم فحسب، وانما في أوكرانيا عامة. هذا المجمع العمراني الذي تعرض للدمار مرات عديدة أدرج مؤخرا على لائحة منظمة اليونسكو للتراث البشري. هذا ويراود  تتار القرم اليوم حلم استعادة إمجاد الماضي وإن كان عن طريق الاستيلاء القسري على الاراضي.

ويحاول التتار في عاصمة القرم سمفيروبل منذ عودتهم من المنفى الستاليني إستعادة ولو جزء مما يعتبرونه إرث آبائهم وأجدادهم. لكنهم وجدوا على الارض واقعا جديدا بعد رحلة طالت زهاء نصف قرن. الاستيلاء على الاراضي بصورة غير قانونية في شبه جزيرة القرم يهدد بالتحول الى نزاع عرقي قد لا تحمد عقباه بين تتار القرم والسكان الناطقين باللغة الروسية في شبه الجزيرة.

وأحيط المجمع السكني الموجود في جادة بالاكلافا بعاصمة القرم سمفيروبل باسلاك شائكة قبل ان يكتمل بناؤه. فقد استولى التتار على الاراضي في هذه المنطقة في عام 2006 بدعوة من المجلس الشعبي لتتار القرم. الا ان السلطات المحلية اضطرت لتجميد عملية البناء في المجمع تحت ضغظ الاحتجاجات الواسعة التي نظمتها الجالية الروسية في شبه الجزيرة. ذلك الاستيلاء كان آخر استيلاء جماعي منظم أقدم عليه التتار. ومنذ ذلك الحين ما انفكت المنظمات الاجتماعية للجالية الروسية تعمل بكل الوسائل القانونية المتاحة لتفادي تكرار عمليات الاستيلاء على الاراضي. ومن بين هذه المنظمات "إتحاد تاوروس" الاجتماعي الذي وضع ناشطوه خرائط مفصلة للاراضي التي استولى عليها التتار على مدى عقد من الزمن.

وبهذا الصدد، قال اناتولي فيلاتوف رئيس "اتحاد تاوروس"، ان "الاستيلاء على الاراضي إتخذ أبعادا واسعة في نهاية التسعينات من القرن الماضي، حيث انخرطت في هذه الممارسة منظمة غير شرعية هي المجلس الشعبي لتتار القرم.. وقد شرعت آنذاك هذه المنظمة في تشكيل مجموعات مسلحة للاستيلاء على الاراضي وفق مبدأ فرض واقع جديد.. ومن ثم أخذ المجلس يشيد المباني والمساكن على هذه الاراضي بضغط سياسي من السلطة المركزية في كييف.. وقد سجلت هذه الاراضي وما شيد عليها في السجل العام للعقارات، الا ان هذه الاجراءات، من وجهة نظرنا، غير قانونية وتؤجج التوتر والمواجهة العرقية بين التتار والروس في شبه جزيرة القرم".

لكن تتار القرم الذين بدأوا بالعودة الى ديارهم في شبه الجزيرة في نهاية عهد الاتحاد السوفيتي السابق يرفضون وصف ما يقومون به بالاستيلاء. وعلى حد وصف نائب رئيس المجلس الشعبي لتتار القرم رفعت تشوباروف فان ابناء جلدته يمارسون استعادة الاراضي التي سلبت من أبائهم واجدادهم.

ومن جهته قال رفعت تشوباروف نائب رئيس المجلس الشعبي لتتار القرم "نحن نفكر في المقام الاول في مصير شعبنا. خاصة بعد حوالي نصف قرن من التهميش والتذويب.. وعندما نواجه اليوم تحدي الزوال ينبغي علينا ان نفعل كل ما في وسعنا لتفادي اندثار شعب تتار القرم كجزء من الحضارة الانسانية.. وفي الوقت الذي نريد فيه الخير والرغد لشعبنا نفهم في آن معا أن ذلك يتطلب الحذر في اختيار الاساليب والوسائل لتحقيق هذا الهدف بحيث لا تتعارض مصالحنا مع مصالح اولئك الذين يعيشون من حولنا، ولكي يشعر هؤلاء بالامان والراحة والاطمئنان بيننا.. ولذلك فاننا عندما نتحدث عن أشكال تجسيد حقوقنا المشروعة نأخذ في الحسبان ايضا مصالح وحقوق الاخرين.. وبالفعل فاننا نعتقد أن شبه جزيرة القرم يجب ان تتمتع بصفة سياسية وقانونية خاصة.. ونرى الصيغة المثلى لحق تتار القرم في تقرير مصيرهم في إقامة كيان قومي ذي حكم ذاتي على اراضي شبه الجزيرة".

بيد أن قادة الجالية الروسية في القرم يفندون هذه المزاعم. فهؤلاء يرون في ممارسة الاستيلاء على الاراضي والسعي لاقامة كيان قومي تتاري على اراضي شبه الجزيرة قنبلة موقوتة يمكن أن تنسف السلام الهش بين ابناء القوميات المحتلفة. وفي رأيهم فان القوى المتطرفة في الطيف السياسي الاوكراني تغذي تطلعات تتار القرم.

وحول ذلك، قال اوليغ روديفيلوف نائب رئيس الجالية الروسية في القرم ان "ميزان الحرارة يسجل درجة مرتفعة للنزاع العرقي في جمهورية القرم.. وفي اعتقادي فان سبب تأجج هذا النزاع يعود الى نشاط منظمة غير شرعية تسمي نفسها المجلس الشعبي لتتار القرم.. واللافت أن هذه المنظمة وجدت حليفا دائما لها في القوى القومية الاوكرانية التي تتسم بالتطرف، لا بل بالنزعة الفاشية الصريحة.. إن هذا التحالف المشبوه مبني على مبدأ "عدو عدوي صديقي".. من هنا فان المجلس التتاري المغذى من قبل المتطرفين الاوكرانيين يمارس نشاطاته الهدامة ضاربا عرض الحائط كافة الاعراف والقوانين.. والواضح أن مهمة المجلس تكمن في حصر تتار القرم في قوقعة مغلقة وتأجيج مشاعر البسطاء منهم بهدف تجنيدهم، بما في ذلك، من خلال اطلاق شعارات دينية متطرفة لتحقيق اهداف سياسية.. بالطبع فان هدف هؤلاء هو اقامة دولة ليس مدنية بل دولة قومية للسكان التتار في شبه الجزيرة، مبنية على اوهام  مستوحاة من زمن امارة القرم.. هؤلاء يريدون تحقيق اهدافهم ولو بثمن اشاعة فتنة عرقية بين مكونات مجتمع القرم".

ويرى القوميون الاوكرانيون بدورهم ان سبب عدم الاستقرار في شبه جزيرة القرم يكمن في دسائس المخابرات الاجنبية، لا بل الروسية تحديدا. وهذا ليس غريبا بالنسبة لقوى أثبت تورطها في السابق في أعمال عدائية ضد روسيا، كان آخرها في اوسيتيا الجنوبية.

وفي هذا السياق، قال فاسيلي اوفتشاروك رئيس مؤتمر القوميين الاوكرانيين في القرم "أعتقد أن بوسع الروس والاوكرانيين وتتار القرم وغيرهم أن يعيشوا أفضل بكثير لولا دسائس أجهزة المخابرات الاجنبية، بما في ذلك الروسية منها.. ومهمة هذه الاجهزة زعزعة الاستقرار في القرم وتحريض الناس بعضهم على البعض الاخر.. انهم يشيرون باصابع الاتهام الى مكونات المجتمع المحلي، ويقولون مرة إن الروس مذنبون ومرة اخرى إن الاوكرانيين مذنبون وثالثة إن تتار القرم مذنبون.. وبذلك يؤججون التوتر بين ابناء القوميات المختلفة ويخلقون اجواء من الاحتقان السياسي.. وهكذا فان السكان يتوقعون باستمرار ظواهر وممارسات  سلبية واستفزازات . لذا لا بد من وضع حد لنشاط المخابرات الاجنبية في القرم".

فقبل أكثر من نصف قرن أهدى الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف شبه جزيرة القرم لجمهورية أوكرانيا السوفيتية. الاهداء كان بمناسبة مرور 300 عام على انضمام اوكرانيا طوعا للامبراطورية الروسية. وورثت أوكرانيا الحديثة مع القرم مشاكله ايضا.

وقال ليونيد جونكو ممثل الرئيس الاوكراني في القرم "في القرم اليوم يعم السلام بين مختلف القوميات   التي تقطن شبه الجزيرة.. بالطبع توجد هناك بعض القوى السياسية ذات التوجه الراديكالي، هذه القوى الموجودة سواء في الوسط الروسي او الاوكراني او التتاري لا يحلو لها هذا السلام وتحاول إثارة النعرات العرقية بين القوميات الاساسية لتحقيق مكاسب سياسية.. ولحسن الحظ فان هذه القوى لا تملك حاليا قاعدة اجتماعية واسعة ولن تملكها في المستقبل المنظور.. اما اذا تحدثنا عن الترتيبات المعيشية في شبه الجزيرة لتتار القرم وغيرهم من الشعوب المهجرة فانها تتسم بقدر مقبول من الدينامية، ولو اننا نسعى الى دينامية أكبر بالطبع.. وفي اعتقادي فان مشاكل العائدين تحمل صبغة اقتصادية.. الدولة اليوم غير قادرة على التمويل الكامل لبرامج اعادة الشعوب المهجرة الى ديارها.. هنا تحديدا يمكن جذر النزاعات التي تظهر على الساحة  السياسية في جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي".

لا أحد ينكر حق تتار القرم في العودة الى الديار، لكن ما ذنب ابناء الشعوب الاخرى الذين جلبتهم السطات واسكنتهم في البيوت المهجورة، وهل سيتعايش هؤلاء على أرض واحدة؟.. لكل حادث حديث.
 

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا