الإيمان بالله |
أولاً : : الإيمان بالله - عز وجل - أصل الأصول ، وأهم المهمات ، وأشرف العلوم. والإيمان بالله هو التصديق الجازم بوجود الله ، وبأنه رب كل شيئ ومليكه ، وأنه الخالق وحده ، المدبر للكون كله ، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له ، وأنه متصف بصفات الكمال والجلال ، وأنه منزه عن كل عيب ، ونقص ، ومماثلة للمخلوقين. وهذا الإيمان مستقر في فطرة كل إنسان ؛ فكل واحد من البشر مفطور على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عن ذلك . قال - تعالى - : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } . ومعنى فطرة الله : الإسلام . ولهذا فإن كل إنسان مفطور على اللجوء إلى ربه - تعالى - عند الشدائد ؛ فإذا وقع الإنسان - أي إنسان حتى الكافر والملحد - في شدة أو أحدق به خطر - فإن الخيالات والأوهام تتطاير من ذهنه ، ويبقى ما فطره الله عليه ؛ فيلجأ إلى ربه ؛ ليفرج كربته . والمراد بكون الإنسان يولد على الفطرة أنه يولد مجبولاً على حب خالقه ، وإقراره بوجوده وعبوديته ؛ فلو خلي و فطرته لم يعدُ عن ذلك إلى غيره ؛ فكما أنه يولد مفطوراً على ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فكذا يولد مفطوراً على ما يلائم قلبه ، وروحه من التوجه إلى الله ، والإقرار به . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( كل مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه)) أي أن المولود يولد على الفطرة وهي الإسلام ، ولهذا لم يقل أو يسلمانه ؛ فاعتناق غير الإسلام يعد خروجاً عن الأصلِ ، والقاعدة بأسباب خارجة . فالأبوان قد يصرفان المولود عن أصل فطرته إلى اليهودية ، أو النصرانية ، أو المجوسية ، أو غير ذلك مما يخالف الفطرة . ثم إن العقل السليم يؤيد الفطرة السليمة ، فالعقل يدل أعظم الدلالة على الإيمان بالله ؛ فمن نظر إلى هذا العالم ، وما أودع الله فيه من المخلوقات المتنوعة من أرض ، وسماء ، وجبال ، وبحار ، وإنسان ، وحيوان ، وجماد ، وزروع ، ونحو ذلك - أدرك أن لهذا الكون خالقاً وهو الله - عز وجل - فالقسمة العقلية في هذا الصدد لا تخرج عن ثلاثة أمور : 1- إما أن تكون هذه المخلوقات وجدت صدفة من غير مُحْدِث ولا خالق : وهذا محال ممتنع يجزم العقل ببطلانه ؛ لأن كل من له عقل يعلم أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُحْدِث ولا موجد ، ولأن وجود هذه المخلوقات على هذا النظام البديع المتَّسِق المتآلف ، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات ، وبين الكائنات بعضها مع بعض ـ يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة . 2- وإما أن تكون هذه المخلوقات هي الخالقة لنفسها : وهذا محال ممتنع ؛ فكل عاقل يجزم أن الشيء لا يخلق نفسه ؛ لأنه قبل وجوده معدوم ؛ فكيف يكون خالقاً؟ وإذا بطل هذان القسمان تعين الثالث وهو : 3- أن هذه المخلوقات لها خالق خلقها ، ومحدث أوجدها : وهو الله الخالق لكل شيء ، الذي لم يسبق بعدم ، ولا ينتهي بفناء . وقد ذكر الله - عز وجل - هذا الدليل العقلي القاطع في القرآن الكريم فقال : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } . يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق ، ولا هم خلقوا أنفسهم ؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله ؛ فالمخلوق لا بد له من خالق ، والأثر لا بد له من مُؤَثِّر ، والمُحْدَث لا بد له من مُحْدِث ، والمصنوع لا بد له من صانع ، والمفعول لا بد له من فاعل . هذه قضايا واضحة ، تعرف في بداهة العقول ، ويشترك في إدراكها والعلم بها جميع العقلاء ، وهي أعظم القضايا العقلية ؛ فمن ارتاب فيها فقد دل على اختلال عقله ، وبرهن على سفهه ، وفساد تصوره . وهذه الحقائق معروفة لدى العقلاء من غير المسلمين، ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم ) وقد كتبه ثلاثون من علماء الفلك و الطبيعة ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه ـ العلوم ـ أدرك أن العالم الحقيقي لا يكون إلا مؤمناً، والعامي لا يكون إلاّ مؤمناً، وأن الإلحاد والكفر إنما يبدوان من أنصاف العلماء، وأرباع العلماء ممن تعلم قليلا، وخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى الحق الذي يدعو إليه الإيمان. وقريب من الكتاب السابق كتاب آخر اسمه (الإنسان لا يقوم وحده) وترجم للعربية بعنوان:(العلم يدعو للإيمان). ومؤلف هذا الكتاب هو (كريسي موريسون) الرئيس السابق لأكاديمية العلوم في نيويورك، ورئيس المعهد الأمريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي في الولايات المتحدة، والزميل في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني. ومما قاله (موريسون) في كتابه الآنف الذكر:((إن تقدم الإنسان من الوجهة الخلقية، وشعوره بالواجب إنما هو أثر من آثار الإيمان بالله)). وقال:((إن غزارة التدين لتكشف عن روح الإنسان، وترفعه خطوة خطوة، حتى يشعر بالاتصال بالله، وإن دعاء الإنسان الغريزي لله بأن يكون في عونه - هو أمر طبيعي، وإن أبسط صلاة تسمو به إلى مقربة من خالقه)). وقال:((إن الوقار، والكرم، والنبل، والفضيلة، والإلهام ـ لا تنبعث عن الإلحاد)). وقال:((بدون الإيمان كانت المدنية تفلس، وكان النظام ينقلب فوضى، وكان كل ضابط، وكل كبح يضيع، وكان الشر يسود العالم ؛ فعلينا أن نثبت على اعتقادنا بوجود الله وعلى محبته)). وقال:((وما دامت عقولنا محدودة فإننا لا نقدر أن ندرك ما هو غير محدود، وعلى ذلك لا نقدر إلاّ أن نؤمن بوجود الخالق المدبر الذي خلق الأشياء بما فيها تكوين الذرات، والكواكب، والشمس.)) وقال:(( إن كون الإنسان في كل مكان، ومنذ بدء الخليقة حتى الآن قد شعر بحافز يحفزه إلى أن يستنجد بمن هو أسمى منه، وأقوى ، وأعظم ـ يدل على أن الدين فطري، ويجب أن يقر العلم بذلك)). ومن الأدلة على وحدانية الله ، والإيمان به - دلالة الحس ؛ والأدلة الحسية على ذلك لا تكاد تحصى ، ومن الأمثلة الحسية الدالة على الإيمان بالله إجابة الدعوات ؛ فكم من الداعين الملهوفين الذين يتوجهون إلى الله بالدعاء فيستجيب دعاءهم ، ويفرج كرباتهم ، ويدفع عنهم السوء . والأمثلة على إجابة الدعوات كثيرة جداً ، بل كل مسلم يعرف ذلك من نفسه . قال - تعالى - : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وقال : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } . ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من ذكر لإجابة دعوات الأنبياء قال - تعالى - : { ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له } وقال : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } . وجاء في السنة النبوية أدلة كثيرة على إجابة دعوات الداعين ، ومن ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - (( أن أعرابيا دخل يوم الجمعة ، والنبي _ صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فقال : يا رسول الله ، هلك المال ، وجاع العيال ؛ فادع الله لنا ، فرفع النبي يديه ، ودعا ، فثار السحاب أمثال الجبال ؛ فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته . وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره ، فقال : يا رسول الله تهدم البناء ، وغرق المال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه ، وقال : اللهم حوالينا ولا علينا ، فما يشير بيده إلى ناحية إلا انفرجت )). ومن الأدلة الحسية - أيضاً - آيات الأنبياء التي تسمى المعجزات ، وهي أمور خارقة للعادة ، خارجة عن نطاق البشر ، يجريها الله على أيدي أنبيائه تأييداً لهم ، وتصديقاً لما جاءوا به من الحق. فالمعجزات برهان قاطع على وجود من أرسلهم. مثال ذلك آيات موسى - عليه السلام - ومنها أنه - عليه الصلاة والسلام - لما ذهب بأتباعه المؤمنين لحق به فرعون وجنوده ، فلما وصل موسى وأتباعه البحر قال أصحابه : (( إنا لمدركون )) أي سوف يدركنا فرعون وجنوده ، فقال موسى - عليه السلام - : (( كلا إن معي ربي سيهدين )) فأوحى الله إلى موسى (( أن اضرب بعصاك البحر )) فلما ضرب موسى البحر بعصاه ، صار في البحر اثنا عشر طريقا يابساً فعبره موسى وأتباعه ، ولما لحق به فرعون وتمكن في البحر هو وجنوده أطبق عليهم البحر ، فنجا موسى وأتباعه ، وأدرك فرعون وجنوده الغرق. ومن ذلك آية عيسى - عليه السلام - حيث كان يحي الموتى ، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله. وكذلك نبع الماء بين أصابع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لما طلب كفار مكة منه - صلى الله عليه وسلم - آية فأشار إلى القمر ، فانفلق فرقتين ، فرآه الناس ؛ فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تأييدا لرسله تدل دلالة قاطعة على وجود من أرسلهم. ومن الأدلة على وحدانية الله - عز وجل - ووجوب الإيمان به صدق الرسل ؛ فالرسل جاءوا بدعوى النبوة ، وتلك الدعوى لا يدعيها إلا أصدق الناس أو أكذبهم ؛ فالأنبياء أصدق الناس ، و مدعو النبوة أكذب الناس ؛ فالأنبياء والرسل جاءوا بالوحي من عند الله ، فأيدهم الله ، ونصرهم ، وأعلى شأنهم ، وأجاب دعاءهم ، وأهلك عدوهم ؛ فلو كانوا كاذبين لأهلكهم ، ولخذلهم ، ولجعل الدائرة عليهم كما هي الحال مع مدعي النبوة. فتأييد الله للرسل دليل صدقهم ، وصدقهم دليل على أنهم مبعوثون من عند الله الحق ، وأن مرسلهم حق ، وعبادته حق. ومن الأدلة على وحدانية الله - هداية المخلوقات ، فهذا دليل حسي عظيم يقود إلى الإيمان بالله - عز وجل - فلقد هدى الله الحيوان ناطقه ، وبهيمه ، وطيره ، ودوابه ، وفصيحه ، وأعجمه إلى ما فيه صلاح معاشه وحاله. فمن الذي هدى الطفل ساعة ولادته إلى أن يلتقم ثدي أمه ؟ ومن الذي أودع فيه معرفة عملية الرضاع ، تلك العملية الشاقة التي تتطلب انقباضات متوالية في عضلات الوجه ، واللسان ، والعنق ، وحركات متواصلة للفك الأسفل ، والتنفس من طريق الأنف ، كل ذلك يتم بهداية تامة ، وبدون سابق علم أو تجربة ؟ فمن الذي ألهمه ذلك؟ إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. ومن الذي أعطى الإنسان القوة ، والعقل ، وعلمه ما لم يكن يعلم ؟ إنه الله الخالق المستحق للعبادة. أما هداية الطير ، والوحش ، والدواب فحدث ولا حرج ؛ فلقد هداها الله إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان. وإذا أردت الدليل فانظر إلى حياة النحل ، أو النمل ، أو الحمام أو غيرها فسترى العجب العجاب الذي يدعوك إلى الإيمان برب الأرباب. والمجال لا يتسع للتفصيل في هذا الأمر. |