×

حكايات بيروتية: كان البلبل رجلاً وكان لي عقل العصافير

التصنيف: Old Archive

2009-10-11  06:03 ص  1262

 

 

فاروق عيتاني
[ اختفاء عمر المدور ويوجين
كان ذلك ضحى نهار حار من صيف بيروت زمن الحصار الإسرائيلي سنة 1982. على شرفة منزلي ببناية برج المصيطبة على كورنيش سليم سلام، وقفت أستمتع بخلو الحي والشارع والبناية من السكان. جميعهم نزحوا، ما عدا جاري الحاج مصطفى سنو الذي جاوز من العمر الستين. كل منا يقف على شرفة، ونأنس تخفف بيروت من زحمة الناس، ونمتدح حكمتنا في البقاء بالتنادي: "اللي بيخرج من دارو بيقل مقدارو".
فجأة دوّى إنفجار قوي إرتجت له البناية، مصدره جهة السان جورج. لم يكن حينها من اثر للطيران في الجو، وأمس وطوال الليل، يومها، كانت الجبهات ساكنة. عشر دقائق، وأخذت سيارات إسعاف تعبر مسرعة جادة سليم سلام بصفاراتها نحو منطقة الفنادق، ولم نلحظ عودة أي منها. بعد عشر دقائق أخرى سمعت الحاج مصطفى يسأل أحد المارة في الطريق عن الإنفجار. عدت إلى الشرفة لأسمع الجواب، وكان: "في شاحنة براد خضرة إنفجرت على السان جورج، وكان في شوية عالم طاروا عالبحر"!. تطلعت إلى الأعلى حيث الحاج سنو الذي أشار لي بيده أن: "ننزل نشوف؟". هززت رأسي موافقاً. لم أقطع المسافة من الشرفة إلى المطبخ إلا والحاج مصطفى يطرق الباب.
وصلت بسيارتي الفيات 132 إلى الهوليداي إن. الحاج جالس بجانبي يلوم مشّائي الكورنيش، ويستحسن ملازمة البيت في زمن الحروب.
كانت الطريق مسدودة نزولاً عند "الهوليداي إن" بسيارات فضوليين وصحافيين، وجمع مختلط بين مترجم متطوع للصحافة الأجنبية، وموسع طريق "للمسائيل" الذين بدأ توافدهم، مع دخان يتصاعد، وحجارة تطايرت وأغلقت الطريق في أسفل نزلة الفينيسيا. وكان هناك مشهد مسعفين مع جمع يقف على ما تبقى من الرصيف البحري يتطلع إلى البحر. أردت إكمال الطريق إلى الحمرا، فطلب الحاج سنو أن يترجل. نزل وأوصاني بالعودة سريعاً إلى البيت. فحسب خبرته ـ عندما تطوع في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، وإشترك في معركة العلمين، وسلّم عليه حينها الجنرال مونتغمري وثعلب الصحراء الماريشال فون بوك روميل عن بعد بالمنظار، وهو ينسحب من العلمين ـ سوف يتلو الانفجار قصف مدفعي يحصد حشد المتفرجين هذا.
واصلت السيارة تقدّمها إلى رأس بيروت، وكأنها تسير بنفسها. كأنها تشاركني والطريق الصمت، وكأننا نحن الثلاثة إستسلمنا خاضعين لسيد الصمت، الموت، وسلاحه السكون. الموت يلغي الزمان والمكان منتظرا، ثم ينتظر عودة الاحياء ليعيدوا له الحياة. ترى، أكلاهما يعيشان علينا؟!
وفجأة تنبهت... أمسكت المقود بكلتا يدي. شيء ما أشتعل في جسمي، إنتشر خلاله في ثوان. قلق أقلق السكون فأزاحه، فاعتدل جذعي وإستنفرت كتفاي. في شارع بلس كنت طائراً، وفي آخره نزولاً بعكس السير إلى بناية يعقوبيان. ركضاً على السلالم، كانت تتراكص أقدامي إلى الطابق الخامس، إلى تلك الشقة الملاصقة لشقة فايزة أحمد. طرقت بابها وفتحته بمفتاح لها احمله. لا أحد في الشقة، فقط رسالة تركت لي على التلفزيون وفيها آخر ما كتبه عمر المدور: "فاروق، خرجت أنا وعمتك الحاجة يوجين للتمشي على الكورنيش، الاوضاع هادئة، رجّع الخبز معك، وعد بعد الظهر، لنعمل لفّة في بيروت".
دائماً، في التوجس شراً، تصدقني ظنوني. خرجت للبحث دون جدوى عن صديقي وأنيسي الذي أختفى من ذلك النهار. الحاج عمر المدور وزوجته يوجين. أذكر الآن أنني طوال أسبوع بقيت فيها ماثلاً في الشقة آملاً عودته. أمضيت الاسبوع بلياليه على كرسيه الهزاز على شرفته أتذكره واغفو.

[ كان البلبل رجلاً وكان لي عقل العصافير
مرات كثيرة تناولت الإفطار في رمضان إلى مائدة عمر المدور وزوجه يوجين. ابتدأ ذلك في منتصف الستينات وخلال سبعينات القرن الماضي. كان يقيم في بيتها بآخر الحمراء قرب البلازا، قبل ان ينتقلا الى الشقة التي استأجراها بالطابق الخامس ببناية يعقوبيان أوائل السبعينات.
في شهر رمضان كانت يوجين تصوم تقريباً، ودائماً كانت تحرص على تقديم سفرة رمضانية طازجة وأنيقة لزوجها عمر حتى في زمن عسر أوضاعهما المالية من بداية السبعينات إلى حين إختفائهما. كانت يوجين تجلس إلى طاولة الافطار مقابل عمر، بينما أجلس أنا إلى يساره، ولم تكن الطاولة تتسع لأكثر من أربعة. توزع يوجين "جاط" الفتوش الصغير علينا، وتسكب الشوربة، وتملأ الجلاب لي ولعمر، وكوب تمر هندي لها. كانت رائحتها وهي تقرّب نصف جسمها الأعلى لتوزيع الفتوش أو لسكب الشوربا الساخنة تختلف عن رائحة أمي، ومن أعرفهن من نسوة محيطي. يوجين كانت تأخذ حماماً فور انتهاء تحضير الطبخ، وتغير ثيابها الداخلية، وتمشط شعرها قبيل الإفطار. لاحظت أنها قبل الجلوس إلى طاولة الإفطار بانتظار الغروب، كانت تدخل غرفة النوم، وتخرج مع لمعة زيت عطر الياسمين وقد خطتها بأصبعها إبتداء من نهاية شحمة إذنها اليسرى وتمريراً على خدها الأيسر نزولاً الى رقبتها وصولاً لأعلى منتصف صدرها ليصل زيح زيت العطر ويختفي بين نهديها. مرة وسهواً وأثناء انحناء صدرها لسكب الشوربة، أفلتت مني لها، وبصوت واضح، عبارة: "يوجين أنتِ بتفطري قبل الإفطار". فرمتني بتحديقة عينين لامعتين وثغر تبسم وأرخى شفته السفلى. فتنبهت إلى إستدارة وجه عمر صوبي مع قهقتين داخلتين وكأنه إستحسن صحة العبارة وعفويتها.
غالباً بعد الافطار كنت أخرج أتمشى، إمّا مع يوجين وإمّا مع عمر. ونادراً ما كنا نخرج ثلاثتنا معا. أنا ويوجين، كنا نباشر المشي السريع من أخر شارع الحمراء إلى ما بعد كنيسة الكبوشية. عند مفرق الإتوال، تنعطف يساراً نزولاً إلى كنيسة الوردية، وتقطع شارع المقدسي إلى كنيسة الموارنة في نهايته عند نزلة محلات سميث. أحياناً لا تستكمل المقدسي وتنزل في شارع عبد العزيز إلى مفرق المكحول فتمر قرب كنيسة سيدة النياح ومقبرة الارثوذكس، وبمجمع كنائس الشرق الأوسط، ومشياً في شارع مستشفى الدكتور خالدي وصولاً إلى الكنيسة الألمانية بعد مفرق حبيش. قرب كنيسة سيدة النياح غالباً ما يبادرنا أخينا المختار كمال ربيز بالسلام فترفع يوجين يمناها رادة التحية وتعلمت أنا الرد: "الله معك مختارنا".
مع عمر كان التمشي بعد الافطار مختلفا. كان أقصر مسافة مما مع يوجين. بطيء الخطى يتطلع عمر في وجوه الناس مرتدياً دشداشته البيضاء وقد اعتمر قلبقا بوشناقي يوحي بانتمائه إلى زمن ولى وعالم توارى مهزوماً ولكنه لا يريد أن يستسلم. كان يتأمل في لبس الفتيات "المايكروجب" وفي بناطيل الشبان الذين كنت أرتدي مثلهم "الشارلستون" الذي سعة استدارة ساقه عند القدم تصل إلى 35 سنتم. لا زينة ولا أضواء ولا وجوه كانت في ذلك النهار صائمة. كانت سينما الستراند تعرض فيلم "صوت الموسيقى"، والزحمة عليه كالزحمة على درج سكاي بار هذه الأيام، ولكن بدون سيارات الدفع الرباعي. كان عمر يختصر شارع الحمراء، ومن عند "البيكادلي" يستدير ليسير في شارع بعلبك قبل "بربر" اليوم، ونتمهل في السير. نعيد التطلع إلى صور باكستان المعلقة في واجهات خشبية زجاجية على حائط سفارتها، ثم نقترب من مسجد الحمراء الذي كان شكله القديم أجمل من الحالي، وكان المصلون فيه لا يكملون الصف الثاني. كان ثمة إنقطاع في الأجيال. كان من هم في عمري يشكلون فرق البيتلز الموسيقية. ندخل المسجد لصلاة العشاء إن إقترب وقته، فإن كان هناك متسع، أو ينوي عمر مسبقاً صلاة التراويح في مسجد قريطم، نجّد السير صوبه. يرمق عمر منزل آل قريطم في "جب النخل" ويشير صوب سوره بأصبعه ويردد متحسراً على ماض أفل وزمن إنعدم ويقول: هنا عشت أول عشر سنين من عمري (1910 ـ 1920) وبعدنا سكن البيت إبن السلطان عبد الحميد رحمه الله. ثم يستدير صوب النادي الفرنسي، يرمقه بطرف عينيه، ويدخل إصبعه في إذنه يحكها، كأنه لا يزال يسمع صوت بوق العسكر الفرنسي ويوجه وجهه صوب المسجد، وألحق به.
مع عمر كنت أودعه عند الخروج من المسجد، ومع يوجين كنت أعود معها إلى بيتها أنتظر عودة عمر لأغادر بعدها. أتذكر الآن أنني عدت مرة مع يوجين قبيل حرب 1967ـ كان رمضان يأتي في الشتاء حينهاـ من قرب سينما "الدورادو" فيما برق ورعد في السماء ومطر إنهمر ووحل ملأ الطريق. دخلت بيتها على عجل وأنا خلفها، فقالت إنها ستأخذ حماماً ساخناً. من خلف زجاج شباك في البيت نظرت إلى فضاء أسود وغيوم سوداء، تفرغ مطراً وشرراً ووميض برق متصل متلاحق يدوّي منخفضاً أبعدني عن الشباك إلى داخل البيت. في الداخل كان الضوء الأبيض خارجاً من باب الحمام شبه المفتوح. كانت يوجين عارية تستحم. وقد ادارت ظهرها للباب وأرخت جبهتها على رخام الحمام العاكس للبياض واسدلت كلتا يديها الى الاسفل. الماء الساخن ينساب فوق رقبتها ويسرى على عامودها الفقري لينزل. ثم راحت يوجين تسدير بجسدها إلى مواجهة الباب. نتعت جسمي للخلف وأعدت مدّ رأسي، عيونها مغمضة، مؤخرة رأسها مستندة إلى البورسلان الأبيض. الماء الساخن يهبط على جسدها قبل أن تعود بيدها إلى تجويف في البورسلان، تسحب منه عبوة شامبوه تسكبه فوق شعرها فتتدحرج رغوة وفقاعات شقية.
كانت قطة يوجين في فروها الابيض ونعسها المستدام تتطلع بعينيها الزرقاوتين أمام باب الحمام وقد تمددت على سجادة الممر وراحت بتكاسل تحرك ذيلها. أما بلبل عمرـ ذو الرأس الشموطي والمنقار الحاد والعيون البنية المستديرة الكبيرة وصاحب الحجم الممتلئ بعد سنة ونصف من عمره، مع فحولة معلنة بكبر المسحة الصفراء في أسفل بطنه ـ فقد طار من قفصه الذي لا باب له وحط أمام قطة يوجين التي لم يعبأ يوماً بها. ركز نظره عليَّ لا على يوجين. إنه يعرفني جيداً فقد شاركت عمر في تربيته منذ أن اتينا به عن شجيرة زيتون قرب النهر في سهل مرجعيون أسفل قلعة الشقيف. كان وحيداً يزقزق جوعاناً وقد مات في العش أخواه لمكروه أصاب أمهما. كان "مجاوينا"، وتربى حراً يطير في أرجاء البيت، يقف على الشرفة يطير إلى حرم الجامعة الأميركية وإلى جب النخل في قريطم ويعود ويدخل البيت، وقد عجزت إناث بلابل المنطقة عن اغوائه بعدم العودة.
سمعت إدارة عمر مفتاح باب البيت. تقدمت إلى الباب لفتحه. كانت ثيابه مبتلة رغم توقف المطر في الخارج. كان باب الحمام موصداً. علا صوت يوجين من داخل الحمام. "مين إجا؟" فأجاب عمر: "أني يوجين". شق عمر شباك الغرفة. خرجت يوجين من الحمام ملتفة بالشراشف لتدخل غرفتها وتغلق بابها. إقتربت من البلبل لارفعه. بربر في وجهي، لم يرفرف ويتمايل متحبباً لي على عادته. نقر أصبعي نقرة لم أكن أتخيل أنها مؤلمة الى ذلك الحد. أرتفع قليلاً وأنقض على "بوسي" يوجين، نقرها في عينها. صرخت وقامت تركض وتصطدم بالاثاث والممر. على صرختها خرجت يوجين. استدار البلبل في طيرانه وخرج إلى الفضاء. ذهلت أنا وتسمرت يوجين لم تنطق. وصرخ عمر بها: "شو عملت بسينتك للبلبل؟".
في صلاة عيد الفطر لرمضان ذاك، كان عمر يدخل مسجد قريطم أمامي. سمعنا صفير البلبل والتفتنا إليه نازلاً صوب عمر من عسف نخلة كالثريا. ما أن لمحني حتى بربر واستدار في طيرانه عائداً. خجلت من نفسي أن أكمل خلف عمر وانقطعت عنه حتى حزيران 67. كان البلبل كأنه رجل وكان لي عقل العصافير.

[ شخص مجهول في مرآة
ينتسب عمر المدور بالتبني إلى الحاج عبد الحميد المدور. ولد في حدود سنة 1910. طويل القامة، ناشف العظم، كستنائي الشعر، عريض الجبهة، أزرق العينين، آري الأنف، عريض الذقن، له غمازتان رافقتاه من الولادة إلى الإختفاء. الارجح انه اختطف جنينا من حلب، بلفة من الحرير الملفوف بها حينها. نوريتان تخلتا عنه للتخفف منه في الفرار أثناء مطاردتهما من قبل بعض أهالي قريطم وساقية الجنزير لسرقتهما الرضيعة إكرام أبنة عبد الحميد المدور، موظف الولاية، والمستأجر حينها عند الحاج مصباح أحمد قريطم الذي تسمى المحلة على اسمه إلى اليوم. أرضعته والدة إكرام، فاطمة أحمد اليشرطي من عكا، فصار ابنها بالرضاعة وصارت إكرام شقيقته بالرضاعة، وسجّله عبد الحميد على إسمه في أول إحصاء للسكان بلبنان عام 1921.
تلقى عمر ـ كما سموه ـ علومه في مدرسة الثلاثة أقمار الارثوذكسية، وفي مدرسة رأس بيروت العلوي، ومدارس المقاصد الإسلامية. أمضى سنة واحدة في الجامعة الأميركية ببيروت، وسافر بعدها إلى المانيا (1929 ـ 1934) وتخرج مهندساً في الكهرباء. ثم عمل في القدس، في الشركة الأهلية ـ الالمانية لتوليد الكهرباء، وعمل في مقر الشركة في حيفا حيث تعرّف إلى يوجين.
كان دائم التردد على المانيا وأسطمبول إلى ما قبيل سقوط الأولى. وكان صديقاً ليونس البحري الاعلامي العراقي صاحب البرنامج الاذاعي المشهور: "هنا برلين ـ حي العرب من المانيا"، الموجه للعرب، والمخصص للدعاية ضد البريطانيين. كان عمر المدور ناشطاً بين الشباب العربي في المانيا. والحقيقة أنه كان متصلاً بالمخابرات الالمانية. وعمل منسق إتصالهم مع رشيد عالي الكيلاني في العراق وكان على صلة بمفتي عموم فلسطين الحاج أمين الحسيني. كما أنه المتابع الفعلي للمسلمين اليوغسلاف الذي تسربوا من البوسنة أعوام 1944 ـ 1947، ووصلوا إلى فلسطين وقاتلوا فيها ضمن تشكيل خاص بهم عُرف بإسم المجاهدين اليوغسلاف، وذاب بين الفلسطينيين بعد النكبة.
نشط عمر المدور في أوائل السبعينات في القرن الماضي مع زوجته يوجين ومعارفه الفلسطينيين للسلام مع اسرائيل. وأذكر أنه يوم إستقبل حافظ الأسد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، قال لي عمر حينها، طار السلام، وإنتهت الثورة، ولبنان.
لا تختصر سيرة عمر المدور سيرة رأس بيروت فقط، بل هي مرآة لسيرة أمة خلال معظم القرن المنصرم. جاء من المجهول، وأختفى في المجهول، لم يرزق بأولاد. لم يرث ولم يورّث

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا