من الدولة الفاشلة إلى الدولة المتلاشية

التصنيف: أقلام

2022-02-18 02:59 م 144

كل مقال يعبّر عن رأي كاتبه، ولا يمثّل بأي شكل من الأشكال سياسة الموقع.

عارف العبد :المدن

تزخر هذه المرحلة التي يعيشها لبنان منذ انتقاله الميمون للعيش في جهنم، تزخر بالكثير من التجارب والنماذج الفريدة، والتي ستزود الدارسين والأكاديميين المختصين في علوم الإدارة السياسية الحديثة وفقه القانون الدستوري بأمثلة نادرة الحدوث في أي بلد في العالم.

يكفينا القول الشهير والمشهود لصهر العهد الرجل الخارق والمحبوب، جبران باسيل، في حديثه مع محطة CNN حين قال بأعين مفتوحة وثقة مشهودة بالنفس "أن الحال في لبنان تختلف عن واشنطن ولندن، وعلينا تعليمهما كيفيّة إدارة دولة من دون ميزانية، لأن لبنان يتأقلم مع كافة الأوضاع، وسنتخطّى هذه المرحلة لأنّ وضعنا الاقتصادي بحاجة إلى تطوير"!

أنا أحد الذين ظنوا أن ما نقل عن لسان هذا الرجل، قد يكون من باب المبالغة أو الافتراء والتضخيم، ولم اقتنع بما نسب إليه إلا بعد اطلاعي على الفيديو الخاص بالمقابلة.

والحقيقة، أن بلدنا من أغرب البلدان، وتجربته الفريدة لا تقارن أو تقاس بغيرها.
البنك الدولي وصف الأزمة في لبنان بـ"الأكثر حدة وقساوة في العالم"، وصنفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر، بعد أزمتي تشيلي عام 1926، التي استغرقت 16 عاماً للخروج من قعرها، وإسبانيا الناتجة عن الحرب الأهلية في 1936.

الأمثلة على غرابة تجربة لبنان عديدة وتظهر كل يوم، ولا تمر بضعة أيام من دون أحداث ووقائع فريدة.

رئيس الجمهورية في لبنان، الذي هو حسب الدستور رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن ويتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، يعلن في حديث صحافي الأسبوع الماضي عن المفاوضات حول الحدود البحرية في موقف جديد، قائلاً:

"خطنا هو النقطة 23، وهي حدودنا البحرية. ليس تنازلاً، بل حقنا الحقيقي والفعلي. تعديل المرسوم 6433 لم يعد وارداً في ضوء المعطيات الجديدة. هذا هو خط تفاوضنا الذي نتمسك به. يقتضي في نهاية المطاف التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين"، الطرف الثاني هنا، طبعاً هو اسرائيل.

هذا كان موقف رئيس الجمهورية. لكن اللافت أنه في اليوم الثاني لهذا الموقف خرج إلى الإعلام رئيس الوفد التقني للمفاوضات العميد الركن بسام ياسين قائلاً: إن إعلان لبنان أن خطه التفاوضي هو الخط 23، يعدُّ خسارة منذ البدء، ونحن دفعنا كل شي وببلاش، ونحن حققنا لإسرائيل ما تريده، وهي حققت أهدافها بضربة واحدة، ونحن لم نستفد بشيء.

كلام الضابط اللبناني يعد عملياً نقضاً قاطعاً لكلام رئيس الجمهورية، وإسقاطاً له واتهاماً للرئيس بطريقة غير مباشرة بأنه تنازل عن حقوق لبنان النفطية والوطنية والسيادية، وبما يقارب الخيانة العظمى.

الواقعة الثانية المستغربة والمثيرة أيضاً، تتمثل بالكلام الذي صدر عن رئيس مجلس الوزراء الناطق باسم الحكومة، نجيب ميقاتي، بعد جلسة مجلس الوزراء في القصر الجمهوري. فقد خرج إلى الإعلام ليعلن أن المجلس أقر موازنة العام 2022، لكن مباشرة، خرج أكثر من وزير ليقول: لا، المجلس لم يقرر بشأن الموازنة، ليسانده مباشرة قادة حزب الله في المنطق نفسه.

رئيس الحكومة يعلن إقرار الموازنة ووزراء ينفون ذلك!

مدعي عام التمييز، الذي هو بمرتبة قاضي القضاة، أصدر قراراً بمنع القاضية غادة عون من النظر بالجرائم المالية. لكن رغم القرار، اقتحمت القاضية عون في اليوم الثاني، على رأس تظاهرة عونية مكاتب ميشال مكتّف للصيرفة، بحماية عناصر من أمن الدولة، وطالبت الشركة بتسليمها ملفات، ولما تمنعت الشركة بحجة عدم الصلاحية القانونية لطلبها، اقتحمت المكاتب بالقوة أمام عدسات المصورين، عبر الكسر والخلع وأخذت الملفات التي تريدها، ولم تسأل عن مجلس القضاء الأعلى أو مدعي عام التمييز، أو التراتبية الإدارية والقانونية، ثم لاحقت ولا تزال حاكم مصرف لبنان، وأصدرت مذكرات باعتقاله بأي ثمن.

عملياً القاضية عون فتحت وزارة عدل على حسابها الخاص، وبتوجيه مباشر من رئيس الجمهورية، الذي أوقف التشكيلات القضائية لأنها لم تعجبها، أو تكن وفق خاطرها.

ظاهرة تفرد القاضية عون تطورت إلى ملاحقات من حي إلى آخر لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن ثم إلى نزاع مع المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، ومشكلات مستجدة، تفرعت عنها نزاعات سياسية وانقسامات جديدة.

الحادثة الأكثر دلالة في سياق الأحداث الغرائبية تمثلت بحضور المعارضة البحرينية مرة جديدة إلى قلب الأحداث المدلهمة في لبنان، وقرار حزب الله برعاية مؤتمرها في فندق الساحة على طريق المطار.

وزارة الداخلية اعترضت على المؤتمر لأنه من دون إذن مسبق من السلطات المختصة، وقد يساهم في زيادة تدهور العلاقات مع دول الخليج، لكن حزب الله وفي تحد قوي وعلني، نقل المؤتمر إلى قلب الضاحية، إلى قاعة يملكها، مشتكياً من أن أجهزة الحكومة تتجاهل أن لبنان دولة تتمتع بالحرية والديمقراطية؟! من دون أن يتوقف أمام الإطاحة بهيبة الدولة والنظام العام والقوانين المرعية الإجراء، أو أمام قلق وشكوى قطاعات واسعة من اللبنانيين من تهديد وضرب مصالحهم وأعمالهم لكسب رزقهم في دول الخليج!

السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله، سدد آخر ضرباته لدولة الحريات والديمقراطية، حين أعلن مبتسماً وفرحاً، في آخر موقف له فخره بتطوير آلاف الصواريخ الدقيقة وعرضه المفتوح لبيع وتصدير الطائرات المسيرة من صنعه.

وهكذا ينتقل لبنان بسرعة الصوت والبرق من دولة فاشلة غير قادرة على إدارة شؤونها إلى دولة متلاشية تكاد تكون غير موجودة أو ظاهرة.