×

في المطار.. حيث قاعة انتظارات المستخدمات: إنتَ موني؟

التصنيف: Old Archive

2009-10-28  01:09 م  1809

 

جهاد بزي

يمشي عنصر الأمن العام مستعجلاً في الممر الذي تشكله عوائق حديدية تفصل بين الواصلين ومستقبليهم. يخرج من الممر متابعاً إلى يمين صالة الوصول في مطار بيروت الدولي. يقبض بيده على مجموعة من جوازات السفر الخضراء.
على بعد أمتار منه، تمشي أكثر من عشرين امرأة. يلفتن النظر، لأسباب عدة. هنّ من العرق الأسود. معظمهن يغطي رأسه. أغطية الرأس تختلف من امرأة إلى أخرى. البعض يضع حجاباً أسود فوق ثوب أسود. البعض الآخر يضع حجاباً خمرياً طويلاً يصل طرفاه إلى البطن، يخبئ الشعر ويظهر الأذنين. البعض الثالث، الأكثر عدداً، يرتدي أثواباً آسيوية التقليدية. فضفاضة أنيقة، شالاتها مطرزة مبهرة. هذه الشالات ليست حجابات. تكشف عن مقدمة الرأس وتغطي زنوداً سمراء عارية. لون واحد من الرأس إلى أخمص القدمين، يختلف من شابة إلى أخرى. أصفر أو برتقالي، أزرق أو زهري. مزيّنات بالذهب. وكثيرات منهن تلمع ورود ذهبية صغيرة عند أطراف أنوفهن.
بينهن، تمشي واحدة بثوب أسود وحجاب كامل مطرز برسومات زهور. على النقاب الذي لا يكشف إلا عينيها، هناك زهرة مشابهة.
مسيرة بطيئة من الألوان فوق البلاط الرمادي الكئيب لصالة الانتظار. هن آخر الخارجات إلى صالة الوصول. يمشين خلف رجل الأمن العام من دون هدى. صامتات يتلفتن في أول ما يرونه من البلد الجديد. قاعة هائلة الاتساع والنظافة. يحملن حقائبهن الصغيرة بمعظمها. فيها أغراض قليلة لغربة آتية. مرهقات بعد ساعات السفر الطويل من بنغلادش إلى لبنان، مروراً بالخليج. لا يشبه بعضهن بعضا. لكن الملامح التي تطبع الوجوه واحدة، ملامح الحذر.
يلحقن عنصر الأمن العام إلى حيث لا يعلمن في الغالب. سيعرفن لدى وصولهن إلى آخر الصالة، حيث الغرفة بالواجهة الزجاجية، يجلس فيها عنصران من الأمن. بالقرب منها باب حديدي، يدلفن منه إلى ممر يؤدي إلى مكان آخر خفي عن العيون. في الداخل الخفي، محطة انتظارات العمال الأجانب الآتين إلى لبنان. بينما يدخلن إليه، يستمر عاملان في دفع مجموعة من العربات صوبهن، حتى تصطدم العربة الأولى من هذا القطار بإحداهن، وهي شابة جميلة، تجفل ملتفتة صوب الرجلين الضاحكين، يلهوان بالغريبات. يسقط شالها عن رأسها، فتعيده، وتتابع. كأن شيئاً لم يكن.
يدخلن في الممر ويختفين. يبقى الباب مفتوحاً. أما قطار العربات، فيدخل من ممر آخر قريب من الباب الحديدي.
في الفسحة أمام الغرفة والباب، يقف لبنانيون وفليبينيتان تنتظران إجراء معاملات مغادرتهما.
لغرفة الأمن العام نافذتان. النافذة الأولى لإنجاز أوراق المسافرين من العمال الاجانب، والنافذة الثانية للواصلين من هؤلاء العمال، ينجز تأشيرات الدخول التي تقدّم بها أرباب وربات البيوت اللبنانية. هنا يقف اللبنانيون حاملين تأشيرات دخول الخادمات، وخمسين ألف ليرة. يتعاملون مع جالس إلى مكتبه لا يرفع رأسه عن الأوراق بين يديه. مهذبون. أسئلتهم مقتضبة وخجولة. يقدمون التأشيرات والمال للموظف الصامت تقريباً، فيقوم ويبحث بين الجوازات المصطفة مفتوحة على طاولة صغيرة خلفه. يسحب منها الجواز الذي يلائم الورقة في يده. يضع فيه التأشيرة والمبلغ المالي ويركنه في مكان آخر. ينجز العنصر المعاملات في مجموعات. حين ينهون أوراقهم، ينسحبون إلى الفسحة أمام المكتب والباب الحديدي. كأي منتظر، يعلوهم ذاك الضجر العميق، تكسره الأحاديث الجانبية. على اللبنانيين أن ينتظروا، وعلى العاملات الانتظار. هو ليس انتظاراً. هو ترّقب يمر خلاله الوقت بطيئاً على الذي يفكر في شكل الخادمة الآتية، لأن ليس لديه أدنى فكرة عن امرأة آتية من بنغلادش إلا صورتها الشمسية، وبعض أحكام مسبقة عن شعوب تلك الناحية من العالم.
بين أي شخصين مفترضين، يبدأ الحديث هنا بسؤال يتخطى سبب الوجود في المكان. السؤال الأول بين امرأة لبنانية محجبة وأخرى ليست محجبة: «من وين جايبة؟». «من بنغلادش»، تجيب المحجبة. ترد الأولى: «وأنا كمان. بس خوفوني إنهن وسخين». تنفعل المحجبة: «جارتنا جابتها، متل التلج». تتابعان حديث تجارب الأخريات مع المستخدمات، بينما رجال ونساء آخرون يصلون إلى المكان. تمر بهما سيدة بدينة مرحة، تسير أمام الفليبينية الموظفة لديها التي تدفع عربة عليها حقائبها. تقول لواحدة من السيدتين، بمرح، ومن دون مقدمات: «بكرا بتصير تقلّك اسكتي».
الشابة الفليبينية ستقف مع الاثنتين المنتظرتين وينفتح حديث نجهله بلغة البلاد التي سيرجعن إليها بعد ساعات. إلى جانب الفليبينيات ستقف السيدة البدينة المرحة، تحكي مع قريبة لها ريثما يأتي وقت إنهاء معاملات مغادرة مستخدمتها.
الكلام خافت، والمكان هادئ. تقطع الهدوء لبنانية بحذاء ذي كعب عال وخطوات غاضبة، تصل إلى نافذة المغادرين وتعلم أن الوقت لم يحن بعد لإجراء معاملتها. ترجع. تشير إلى امرأة بنغالية بحجاب وعباءة سوداوين: «روحي وقفي هونيك»، مشيرة إلى جدار بعيد. تمشي تلك. تتابع اللبنانية الغاضبة: «وإنتو روحوا وقفوا حدها.. أحسن ما اقبرها هون بالمطار». فتمشي أم اللبنانية وابنتها التي لم تتخط العاشرة من عمرها. تنتبه هذه المرأة النزقة إلى أنها بصوتها المرتفع الآمر يسارا ويميناً، صنعت مشهداً التفت إليه الناس، فتتابع كأنها تتحدث إلى الام والبنت مع أنهما صارتا بعيدتين: «بدها تهرب؟ أنا بفرجيها». تريد للموجودين أن يسمعوا على ما يبدو. يمكن هؤلاء أن يصدقوا أو لا. في الأصل لا دخل لهم.
تختفي النزقة، وتقف المسنة والطفلة عند جانبي الخادمة بالثياب السوداء، كأنهما تحرسانها. تميل الخادمة على السيدة، تمسّد على كتفيها، تراضيها، فتشيل السيدة الرزينة قطعة شوكولا من حقيبة يدها وتنزع عنها الورقة وتعطيها لها.
تطل مجموعة من النسوة من الباب الحديدي. يشير أحد العناصر إلى غرف الخلاء. يمشين بعضهن خلف بعض. طويلات، قصيرات، نحيلات وممتلئات، بأعمار مختلفة، وبأزياء معظمها محتشم، بعضها يبدو أغلى ثمناً من بعضها الآخر. هن، في هذا الاختلاف، يشبهن تماماً اللبنانيات المنتظرات، يتشابهن في العرق واللهجة، ويختلفن في ما تبقى.
عند نافذة الأمن العام، يسأل أحدهم: «هون الإستلام؟» يجيبه الموجودن بنعم، من دون السؤال عن استلام ماذا؟ هم يعلمون أنه آت «لاستلام» خادمته الجديدة. لو أنه آتٍ إلى المطار للمرة الأولى، لاستقبال قريب له، واستخدم هذا التعبير للاستدلال إلى مكان استقبال العائدين «العاديين»، فإن أحداً لن يعرف قصده.
تعود النسوة البنغلادشيات إلى غرفة الانتظار. بعد دخولهن بقليل، يظهر عنصر الأمن العام نفسه، مكرراً مشهد جوازات السفر في يده. خلفه تمشي، هذه المرة، عشرون شابة أثيوبية. تفلت واحدة منهن، وتقبل رجلاً لبنانياً أشيب الشعر وتحضنه بمحبة ويتحدثان بالانكليزية. هي كانت في زيارة إلى بلدها وعادت. يطمئن عنصر الأمن العام الرجل بأنها لن تتأخر ما دامت تحمل إقامة، ويطــلب منها الدخول إلى غرفة الانتظار.
الباب مفتوح معظم الوقت، والرقابة عليه ليست قاسية. تقترب منه بضع شابات. يقفن متفرجات إلى الخارج، ويتبادلن نظرات وابتسامات خجولة مع اللبنانيين. حين ينتبه إليهن عنصر الامن العام، ينهرهن بالعربية، ومن حركة ساعده في الهواء وصوته العالي، يفهمن مراده ويختفين من أمام الباب، فيغلقه.
بعد قليل، يخرج العنصر الجالس في المكتب حاملاً بضعة جوازات سفر. يدخل الى غرفة الانتظار، وقبل أن يطل تبدأ بالتوافد من الداخل المحجوب، إلى الباب، ثلاث فتيات، واحدة بعد الاخرى، يحملن حقائبهن. يتجمع اللبنانيون في مكان مواجه، يبعدون عنهن بضعة أمتار. لا أحد منهم يعرف الوجه الآتي للعمل والعيش في بيته، مع أنهم يحملون نسخات عن جوازات سفرهن عليها صور شمسية. تطرح واحدة من اللبنانيات النظرية الأولى في العنصرية: كلهن متشابهات. تقول إنهن سوداوات ولسن سمراوات كما يبدين في الصور. السبب، برأيها، هو «هيدا الشي» الذي يضعونه على وجوههن. «هيدا الشي» مصطلح لبناني فوقي جديد يستخدم في سبيل التحقير. و«هيدا الشي» الذي تخبر عنه السيدة هو في الغالب نوع من المراهم التي لا شك بأنها هي نفسها تستخدمها، أسوة بمعظم أبناء البشرية. هي ستكون أول من ينادي باسمها عنصر الامن العام، مشيرا بجواز السفر إلى مستخدمتها الجديدة، ثم يعطي الجواز للسيدة التي تبتسم للفتاة، وتسألها عن اسمها مرتين ولا تفهمه تماماً، ثم تلوح اللبنانية للشابة بيدها، بطريقة غير مفهومة، وتمشي مع رجلين، وتمشي خلفهم الفتاة، بينما السيدة تقول للرجلين: «منيحة. منيحة. أحسن من هاديك». تقارنها بمن كانت تقف بقربها.
يأتي الدور على رجل ثانٍ مرتبك. يتناول جواز سفر فتاة أخرى، ترتدي ثوباً برتقالياً بالكامل. تقول المرأة البدينة المرحة: مبروك، طلعت لك مع المعارضة. يضحك من يسمع التعليق. كما يضحك المرتبك، ويمضي خارجاً من الصالة، تصحبه فتاة أتت لتوها من عالم بعيد، لم يجد إلا الابتسام وسيلة يتيمة للتواصل معها.
الثالثة شابة إثيوبية طويلة بجمال لافت. يأخذ لبناني أربعيني جواز سفرها من عنصر الأمن العام بيد، ويصافحها باليد الثانية، ثم يأخذ منها حقيبتها ويسيران متقاربين. تعلق البدينة المرحة بذهول: «شو حلوة». تضحك رفيقتها، فتصر الأولى كما لو أنها لا تصدق: «عن جد حلوة! حظك حلو». يقول لها الرجل: «من زمان هي هون». ترد عليه: «هيدا على العِشرة صارت هيك».
السيدة بدمها الخفيف، لا تتوقف عن الكلام. تقاطع الفلبينيتين اللتين تتحدثان. تسأل التي لا تعمل لديها: «يو كريستشن أور بودا؟» تريد، بهذه الانكليزية الركيكة أن تعرف انتماء الفتاة الديني. تجيب تلك. تأتي شابة لبنانية اخرى، تحكي مع الفلبينية نفسها بعبارات إنكليزية كاملة. تقول لها: «يجب الآن ان نصعد إلى فوق»، وتتابع معتذرة من الثانية على فصلها عن ابنة جلدتها... «ستلتقيان بعد قليل على أي حال، أنتما مسافرتان على طائرة واحدة». لا تقضم هذه اللبنانية الكلمات ولا تحكي من فوق. يختلف اللبنانيون. على وقع هذا الاختلاف، تمضي حيوات الاجنبيات الآتيات للعمل في البيوت. لكل منهن صلاة بأن يكون حظها جيد. للحظ دوره. ولسوء الفهم الثقافي دروه أيضاً. وهو يبدأ هنا، في المكان الكثيف بتنوع لبنانييه. النزقة التي عادت ترقص على أعصابها، وجدت أمها قد أنجزت معاملة الشابة البنغالية المغادرة. فأشارت إليها بعصبية. كانت هذه ملتزمة المكان الذي أوقفتها فيه النزقة منذ البداية ولم تتحرك، تحمل على ذراعها طفلة سيدة لبنانية جالسة بقربها، تداعبها. ناولت الطفلة لأمها ودفعت عربة حقائبها خلف النزقة وأمها وابنتها وغاب الجميع.
الى الباب من جديد. تقف ثلاث شابات، واحدة منهن ترتدي ثوباً زهرياً، والاخرى أصفر، والثالثة أسود. في الجهة المقابلة تقف مجموعة من النسوة اللبنانيات. تتفرس واحدة منهن في التي ترتدي الزهر، «يمكن هاي، يللي بالزهر، هيي موني». لكن اللبنانية الثانية، بقربها، أجابت: «لا. الزهر لإلنا». وضحكت. نادت الأولى من بعيد مشيرة بسبابتها صوب الشابة بالثوب الزهري. موني.. موني.. ثم أشارت عليها بأن تقترب. فاقتربت. سألتها: «إنتَ موني؟ إنتَ موني؟».
هذه واحدة من أكثر لحظات السيدة اللبنانية سذاجة في حياتها. لسبب ما، قررت أن تحكي إنساناً لا يعرف من لغتها حرفاً، بصيغة المذكر. هل كان شيء ليختلف على الفتاة لو أنها سمعت: «إنتِ موني؟»، أو «إنتو موني؟» أو موني موني؟.. مثلاً.
ليست موني على أي حال. عادت إلى رفيقاتها. وعاد اللبنانيون الى التفرج عليهن. بضعة أمتار تفصل بين المجموعتين بالعيون المتواجهة. مع ذلك، فإن عالماً بكامله من اللافهم يجثم بين هذه العيون. جدار شفاف من الاختلاف الثقافي يبدأ باللغة ولا ينتهي. هذه الوجوه المرتبكة المذهولة من الطرفين تشبه وجوه كائنات من كوكبين مختلفين، تلتقي للمرة الأولى.
هذا اللقاء المزدوج راح يتفكك. كل واحدة تمشي خلف ربة أو رب عملها، حاملة حقيبة يدها وهواجسها، وأحلامها. الباقيات في الداخل سيبقين في انتظارهن حتى يأتي رب العمل المجهول. لا سبيل آخر لهن.
تغادر الشابة ذات الثوب الزهري مع لبنانية أسعدها أن البنغالية جميلة. تمرّان بشابتين شقراوين فارعتي الطول، تهتز واحدة منهما على إيقاع موسيقى غربية. هاتان، أيضاً، معهما عربتان تنوءان بالحــقائب. عليهــما المرور بغرفة الامن العام نفسها، كي تغادرا البلاد.
في الخارج، تقف الفتاة بثوبها الزهري بقرب ربة عملها، حاملة حقيبة زرقاء صغيرة. تنتظران سيارة زوج السيدة لتقلهما. عند الجانب الآخر من الطريق، ينشغل لبناني أربعيني بعربة عليها حقائب كثيرة، لشابة أوروبية شرقية، بشعر أشقر يلمع، وجسد نحيل فارع الطول، يلتصق به بنطلون الجينز، فلا يحتاج إلى ذاك الحزام الذي يبدو أن «بكلته» هي الغاية منه. حرف G يعود إلى ماركة «غوتشي».. وحقيبة الفنانة الاستعراضية المغادرة ينفلش عليها الحرف نفسه. تكاد الحقيبة تقع، بينما اللبناني ينزل العربة بحرص شديد عن الرصيف، فيتدارك وقوعها. الشابة الشقراء مشغولة عنه، تحكي على الخلوي الرقيق، كأنه ورقة

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا