×

كنزٌ في صندوق صوَر

التصنيف: تقارير

2013-05-13  09:13 ص  811

 

 يوسف حاج علي 

تُبعد الصبية الأقلام، فالحبر مادة ممنوعة. تخلع الخواتم من أصابعها وتفك السوار من يدها. تجمع الحلي كلها وتضعها في أبعد زاوية ممكنة من الطاولة الكبيرة. تلبس في كفيها قفازين طبيين وتحمل بعناية الصندوق الذي تناولته عن الرف ثم تضعه فوق الطاولة. ما تتعامل معه ياسمين شمالي يحتاج إلى عنايتها كاملة. هذا ما يشعر به الزائر الذي يراقب حركات الصبية المحترفة. 
ياسمين العارفة ببديهيات مهنتها تدرك جيداً قيمة ما يخبئه الصندوق الكرتوني. تفتح الغطاء بانتباه لتخرج المغلفات البيضاء المتلاصقة بترتيب. في المغلفات مدن ومهن وفنادق ومطاعم ومقاه وأشخاص وأزمان وتاريخ. 
كرتون الصندوق المستورد من فرنسا خال من الأسيد لحماية المحتوى. فالمحتوى ثمين. كنز الصوَر في العلبة يرتبط بمراحل زمنية سابقة، فيها ما يرسم الأماكن بالأبيض والأسود، وفيها ما يحدد أشكال البشر وعاداتهم واهتماماتهم بالألوان. وللكنز المتراكم في الصناديق الكرتونية الكثيرة على الرفوف قصة. 
تقول القصة إن فؤاد دبّاس، الشاب الأربعيني، كان يتجول في أحد شوارع العاصمة الفرنسية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما التقى ببائع للصوَر. المهندس البيروتي ابن العائلة البرجوازية ذات الأصول السورية سأل عن بطاقات بريدية تصوّر منطقة الشرق الأوسط. عرض عليه البائع أكثر من خمسين بطاقة عن لبنان فاشتراها فؤاد كلها. كانت عملية البيع هذه نواة لهواية بدأت صدفة وساهم في استمرارها فضول فؤاد. حشرية «ثقافية» دامت مع الرجل الذي اهتم ببيروت وشوارعها ومحالها وناسها وتاريخها حتى آخر أيام حياته. حاول من خلال هذه الهواية فهم المدينة وتفكيك تفاصيلها من خلال المادة التصويرية التي لاحظ أنها تنقص كتب التاريخ الوطنية.
يوماً بعد يوم، ازداد اهتمام فؤاد بالبطاقات البريدية. وسّع جغرافيا مقتنياته إلى صوَر سوريا ومصر وتركيا والأراضي المقدسة، وصولاً إلى جزر مالطة. جمع نحو عشرين ألفاً منها.
لحِق فؤاد بشغفه لاقتناء الصوَر إلى دور المزادات العالمية. من «دروو» في باريس إلى «سوزبيز» في لندن و«كرستيز» في نيويورك. تبادل الصوَر كذلك مع هواة آخرين. رتّب الكرّاسات والألبومات بنفسه وجعل لنفسه مفكرة يدوّن فيها ملاحظاته الخاصة في ما خص الصوَر التي يجمعها أو تنقص مجموعته. والصوَر بمعظمها، لمجموعات من المصورين من القرن التاسع عشر، مثل المصور الفرنسي فيليكس بونفيس الذي أسس مع ابنه وزوجته استديو أسموه «لا ميزون بونفيس» تخصص بتصوير البورتريهات. وفيليكس بونفيس هو أحد الذين تعاونوا مع نيسيفور نيبس وغرفوا من نصائحه. فنيبس، الفيزيائي والمخترع الفرنسي، يعتبر رائد التصوير الفوتوغرافي. كذلك تضم المجموعة صوراً للمصور الفرنسي جان باتيست شارلييه الذي التقط مجموعة كبيرة من الصوَر في كل من سوريا ولبنان. وقد امتلك فؤاد دبّاس نحو ثلاثة آلاف صورة من مجموعة بونفيس. وتعتبر هذه المجموعة الأهم لبونفيس في العالم. أما المجموعة التي تليها أهمية فيمتلكها الـ«سيميتيك ميوزيوم» في الولايات المتحدة ويبلغ حجمها نصف حجم مجموعة فؤاد دبّاس.
تعود أقدم صوَر المجموعة التي تبلغ نحو خمسة وأربعين ألف صوَرة إلى العام 1860. الصورة لأوثون فون أوستيم، الضابط في سلاح الفرسان النمساوي الذي عاش في القدس ورافق المسافرين ملتقطاً الصوَر لكسب العيش. أما الأجدد من بينها فبمعظمها بطاقات بريدية تعود إلى الفترة الزمنية ما بين العامين 1950 و1960. والصوَر الأحدث يمكن معرفتها من خلال تواريخ التوقيع على البطاقة البريدية التي يكون قد خطّ عليها مسافر أو عسكري أو عامل كلماته الأخيرة قبل أن تطير البطاقة من بلاد إلى أخرى. كذلك، تضم المجموعة نحو ثلاثمئة صورة على ألواح الزجاج، تقنية التصوير التي كانت معتمدة في فترة من الزمان. 
لم يخصّص المهندس المفتون بالصوَر ميزانية لها. كان شغفاً خاصاً. لكن للمجموعة قيمة تبلغ ثروة اليوم. ويعود ذلك إلى كونها من أهم مجموعات الصوَر الشخصية في المكتبات العربية، وربما في العالم، وفق القيمين عليها. 
ترفض ياسمين شمالي، الصبية المسؤولة عن المجموعة الإفصاح عن رقم محدد. تقول إنه يمكن متابعة الأمر في أسواق الأعمال الفنية ومقارنة الأسعار. غير أنها تؤكد أن المجموعة في وضع جيد ما يعطيها قيمة إضافية. 
الصوَر العتيقة حساسة جداً وتتطلب إلى جانب الاهتمام البشري بيئة خاصة. وُضّبت المجموعة في الطابق نفسه لناحية قريبة من مكتب روبير دبّاس رئيس مجلس إدارة «دبّاس هولدينغ» وشقيق الراحل فؤاد، في بناية الشركة في كورنيش النهر. وروبير الذي استعان بخدمات ياسمين قبل سنة ونصف سنة، يبدو حريصاً على إرث أخيه الراحل شديد الحرص. فالصبية الخبيرة، التي تتولى الحفاظ على مواد المجموعة بعدما وكّلها روبير بهذه المهمة، درست في «مدرسة اللوفر» التابعة للمتحف الفرنسي الشهير، وقد عملت فيه لفترة قبل أن تعود إلى لبنان منذ بضع سنوات وتحصل في وقت لاحق على الوظيفة لدى عائلة دبّاس.
في الغرفة الخاصة بمجموعة الصوَر تمت مراعاة ثلاثة عوامل مؤثرة في جودتها: الحرارة، الرطوبة والضوء. ُركب مكيفا هواء يعملان بشكل متواصل، ومداورة، على مدار الساعة. وكما المكيفان كذلك أجهزة الإنذار ومراقبة معدّل الرطوبة موصولة على مدار الساعة بكومبيوتر ياسمين. في الكومبيوتر نفسه جرى توثيق كل المجموعة الكترونياً. نظام حماية المجموعة ليس الأمثل بالطبع لكنه كافٍ لمجموعة شخصية لا تتضمن الصوَر فحسب، بل أكثر من ألف كتاب أيضاً، تساعد على توثيق المجموعة. كتبٌ عن لبنان، والأراضي المقدسة، والشرق الأوسط، والطوائف المختلفة. قبل نقلها إلى لبنان، كانت المجموعة في منزل فؤاد دبّاس في باريس. لكن حين توفي فؤاد في العام 2001 بيع المنزل الباريسي، فنقلت المجموعة إلى بيروت. 
اليوم لا سياسة لاقتناء المزيد من الصوَر لدى العائلة. لن يحدث هذا الأمر قبل معرفة كل ما تتضمنه المجموعة حالياً وتوثيقه. وقد يتم إطلاق مؤسسة خاصة لضمان استمرار المجموعة في فترة ليست بعيدة.
يوسف حاج علي

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

الوكالة الوطنية للاعلام

انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:

زيارة الموقع الإلكتروني

تابعنا