صور وحكايات عن خروج إهدن – زغرتا إلى الزمن المعاصر ورخاء الاصطياف
التصنيف: Old Archive
2011-05-01 09:44 ص 1464
تستعيد هذه السطور أخباراً وحكايات شفهية كثيرة يتداولها أهالي زغرتا – إهدن عن بلدتهم المزدوجة أو المنقسمة. وهي جمعت في سياق بحث في الأنثربولوجيا الثقافية والتاريخية. وبرغم أن بعضها من صناعة الذاكرة الشفهية العامة، فإن كتابتها أقرب الى تمرين على اقتفاء خط الوقائع التاريخية والاجتماعية في البلدتين الشماليتين اللبنانيتين، وفقاً لظهور الوقائع في مخيلة الناس أو ذاكرتهم
إذا كان النزاع بين اهدن وبشري قد حمل الإهدنيين على اعتبار حتى الهواء الذي يهب على بلدتهم الجبلية من ناحية بشري مزعجاً ومقيتاً ومؤذياً - وهذا ما يراود البشراويين إزاء الهواء الذي يصلهم من إهدن – فإن النزاع العائلي والعشائري الدموي في ما بين أهالي زغرتا هو الذي طبع حياة الإهدنيين في بلدتهم الساحلية، وغذى فيهم الروح العسكرية. ففي حقبة مديدة من تاريخها الحديث، عاشت زغرتا نزاعات عائلية وعشائرية دموية ضارية ومفتوحة. وقد بلغت هذه النزاعات أوجها في العام 1958، الذي شهد انقسام البلدة على نفسها عائلياً وجغرافياً، فتحصنت كل عائلة في حماها وحيّها، وفصلت ما بين المتنازعين جبهات قتالية، وانغلق كل فريق على حيه وحياته الداخلية، وهذا ما أدى الى تعليق الحياة والخدمات العامة في البلدة، فنشأت في كل شطر منها ساحة خاصة به.
لكن حروب العائلات والعشائر في المناطق المتوسطية شبيهة، على ما يبدو، بحروب الدول والأمبراطوريات القديمة. وهذه، وفقاً للمؤرخ الفرنسي فرنان بروديل، حروب موسمية تتخللها هدنات كثيرة. ثم إن حروب زغرتا الأهلية، شبيهة ايضاً بحروب الجولات الاولى من حرب السنتين (1975 – 1977) في ضواحي بيروت. ففي تلك الجولات كان المقاتلون يتبادلون في الليل إطلاق النار من خلف متاريس خطوط التماس وبناياتها، ثم يذهبون الى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم ووظائفهم صباحاً في أنحاء المدينة.
الحياة الحربية الثأرية، وما تبعث عليه من ضيق وحصار، حملاً أهالي زغرتا على اتخاذ مدينة طرابلس متنفساً يومياً لهم يرتادونه للتبضع والترفيه والاستجمام والانعتاق من القلق والخوف والحصار. ففي صالات السينما والأسواق والمقاهي والشوارع والساحات الطرابلسية، غالباً ما كان يلتقي أبناء العائلات الزغرتاوية المتنازعة، والتي يتبادل رجال قواها الضاربة القتل والثأر في زغرتا. ربما كان واحدهم يِزْوَرُّ الآخر ويرتعش دمه طلباً للقتل والثأر، غير أن هذا ما كان ليفضي أبداً الى عراك أو شجار أو إشهار سلاح خارج زغرتا، كأنما الجميع عقدوا ميثاقاً غير مكتوب في ما بينهم، وتعارفوا على اعتبار طرابلس حيزاً للهدنة يرتادونه في أمن وسلام.
هي الحروب الأهلية والعشائرية، في عنفها وطلبها الثأر والقتل، لصيقة بالارض والحمى والديرة والحدود التي تنشئها النزاعات والحروب نفسها، فلا تنفك عنها ولا تبارحها أو تخرج عليها. كأن لا معنى ولا غاية للعنف والقتل والثأر ولا باعث عليها، إلا في حمى الأهل والعشائر وفي ديارهم. ورجال القوى الضاربة لا يمتلكون أصلاً القوة والسطوة والإقدام على القتل والثأر خارج هذه الحمى التي تمدهم بالقوة والرعاية والحماية. فهؤلاء يجرؤون، إذ يكونون عراة من هذا كله وأشخاصاً مغفلين في مكان غريب (المدينة)، على ارتكاب ما يرتكبونه في الاماكن الأليفة، المسكونة بقوة الولاء العائلي والعشائري وبصيحات الدم والثأر. فـ"الربيِّطة"، أي الذين يكمنون لعدوهم، ويتربصون به طلباً للثأر، إنما يكمنون له في مواضع من البلدة يألفونها ألفة أكيدة. وفي ساحة البلدة العامة غالباً ما يؤكد أبناء العائلات المتنازعة حضورهم ويعرضون قوتهم في أوقات الهدنة، فيحدث تلاسن قد يؤدي الى عراك وشجار، أو قد يؤجج نزاعاً خامداً.
لا تستمر النزاعات في زغرتا ولا تتوالد وتتناسل في معزل عن معينها ودسائسها المحلية، وعن مسرحها أو حيزها البلدي ومواسمها. كأنما العنف الزغرتاوي، كالسوق، له مواقيته وأماكنه وهدناته المحددة. لكن اللافت أن الزغرتاويين جعلوا من إقامتهم الصيفية في إهدن زمن هدنة، وهذا برغم أن إهدنهم هي الديار والحمى والمعقل العشائري والعائلي الأقدم من زغرتا، الاكثر منها واصالة ورسوخاً في نفوسهم. وربما كان داعيهم الى هذا أن إهدن تحولت مع الزمن، أي منذ ثلاثينات القرن العشرين، مركزاً للاصطياف، لا يقتصر مرتادوه على الإهدنيين، بل يتعداهم الى مصطافين غرباء، طرابلسيين، لبنانيين وغير لبنانيين ايضاً. هذا بينما ظلت الإقامة في زغرتا تقتصر على الزغرتاويين فامست مطلع القرن العشرين موطن العمل والكسب والاستقرار والصلة الوثيقة بالمدينة.
ربما هو نمط حياة الزغرتاويين الصيفي في إهدن، وحاجتهم الى الكسب من مواسم الاصطياف، وإقامة غرباء ونزولهم في ديارهم، ما أرغم الزغرتاويين على لجم عنفهم في أشهر الصيف الثلاثة من كل عام. ومن الامارات المؤشرة الى هذا أن مقاتلي بعض العائلات المتنازعة، كانوا يستكملون نزاعهم المسلح الدامي في زغرتا صيفاً، لكن من دون أن ينقلوا هذا النزاع معهم الى إهدن أحايين صعودهم اليها ومكوثهم فيها بين أهلهم وعائلاتهم. كأنما للقتل والثأر والنزاع مكان شرعي وطبيعي واحد هو زغرتا، حيث يمكن للعنف أن يستمر بلا رادع خارجي وبلا هوادة. لذا ندر أن استكملت العصبيات العائلية الزغرتاوية ومقاتلوها مواسم العنف الدامي في إهدن التي خُصّص صيفها للهدنة وتعليق الثأر وحجب الدم ولجم فوراته القاتلة.
برغم أن أحداً من الإهدنيين الزغرتاويين لا يشعر بأي ضرب من الانقسام في إنتمائه المزدوج الى بلدتين منفصلتين متباعدتين، فإن أيّاً من أهل هاتين البلدتين لا يعلن انتسابه الى إهدن ولا يشهره، حين يُسأل الى أي بلدة من لبنان ينتمي وينتسب: زغرتاوي أو من زغرتا، يجيب دائماً من يُسأل، ويقول من يريد التعريف بأحدٍ من أهل البلدتين، كأنما الانتساب والانتماء الى إهدن هما شأن زغرتاوي داخلي، ويقيم تحت أو ما دون الانتساب والانتماء الى زغرتا. أما حين يبادر أحد أبناء القرى الكثيرة الواقعة بين البلدتين الى القول إن قريته تقع فوق زغرتا، ويسمعه أحد الزغرتاويين، فإن هذا الاخير سرعان ما يبادره بالقول: لكن تحت إهدن. فالموقع الجغرافي، علواً وانخفاضاً، في وعي الجبليين عامة، يشكل عاملاً من عوامل المكانة والقوة والاعتزاز. ومن إهدن العالية الى زغرتا المنخفضة كان أهل البلدتين يشعرون بأنهم كفكي كماشة يحوطون القرى الواقعة بين بلدتيهم ويهيمنون عليها. والاعالي في وعي الجبليين هي "أوكار النسور" على ما أنشدت فيروز في أغنية "الى راعية" التي كتبها الشاعر سعيد عقل، واشتهرت وشكلت محطة في انطلاقة المغنية اللبنانية مطلع الخمسينات من القرن العشرين. وربما يطرب الإهدنيون الى جمع الأعالي والنسور والرعي، اضافة الى الماعز طبعاً، لأن هذه كلها من رموز عالمهم الاصلي أو الاول قبل انقسامه عالمين اثنين، فصاروا يتركون في "وكر نسورهم" أجزاء من مؤونتهم التي يعدّونها صيفاً في بلدتهم الجبلية، خشية أن يفسدها المناخ الساحلي في زغرتا التي كانت إهدن برادها، قبل شيوع البرادات. غير أن زغرتا، منتجع الرعي القديم، وبندر الحرف والتجارة لاحقاً، هي التي حملت الإهدنيين على الاتصال بصور العالم المحدث غير الجبلي، وحوادثه وظلاله. فالحرفيون الزغرتاويون، لكثرة استماعهم الى البرامج الاذاعية من الراديو الذي شاع في زغرتا، سرعان ما سموا "فلاسفة" البلدة. وحتى أواخر الاربعينات ظلت دكاكين الحرفيين في زغرتا، مجالس للفلاحين العاطلين عن العمل، فيمضون فيها أوقاتاً طويلة من نهارات الشتاء يستمتعون الى الراديو وتعليقات أصحاب الحرفة - كالنجار والخياط والحداد والإسكافي والى الاخبار التي تصلهم من أرجاء المعمور. وفي دكاكين الحرفيين حيث كانت تكثر صور مغنين ومغنيات وممثلين وممثلات من مصر، الى جانب صور للجنرال ديغول، بدأ الفلاحون يستسيغون في جلساتهم الاغاني المصرية المخالفة لذوقهم الجبلي والريفي والبلدي الذي يتذوق الميجنا والعتابا والزجل. وهذا ما كان سبقهم اليه الحرفيون من أبناء بلدتيهم. أما في الصيف فنادراً ما كان الفلاحون يظهرون في الحياة اليومية العامة في إهدن لانشغالهم المتصل بأرضهم ومواسمها.
وربما حرص الفلاحون أكثر من غيرهم على التشديد على انتمائهم الإهدني، غير أنهم كغيرهم من أقرانهم جعلوا من انتسابهم الى زغرتا أسبق في الإعلان والإشهار والتعريف رسمياً وفي حضرة غرباء. فزغرتا هي مكان إقامة أهلها في تسعة شهور من السنة، ومكان إقامتهم الرسمي إدارياً، ووفقاً لسجلات قيد الاحوال الشخصية. وفي زغرتا مقر دوائر الدولة الادارية المحلية، وفيها تُجرى الانتخابات النيابية والاختيارية والبلدية، وما تستتبعه من أحلاف ونزاعات. والوجاهة والرئاسة والزعامة، عائلية كانت أو عشائرية أو بلدية، إنما راحت تنشأ في زغرتا وتتكرس، لتنتقل، تالياً الى إهدن وتتكرس فيها. غير أن الذين أُرغموا على عدم مغادرة زغرتا الى إهدن صيف العام 1958 (إبان احتدام النزاعات العائلية الدامية)، كان الشعور بالمرارة والاهانة من نصيبهم، لا لأن عائلة عدوة هي التي سيطرت على الطريق التي تخرج من زغرتا الى إهدن فحسب، بل لأن عدم المشاركة في صيف إهدن يبعث على الحزن والضيق والتعاسة. ومما كان يبعث على الدهشة والاستغراب والسخط تشييد بناء قبيح الموقع والشكل والطراز المعماري في إهدن التي راح كثيرون يتحسرون على زوال القرميد عن سطوح بيوتهم فيها. أما الباطون الذي افترس زغرتا، وكذلك القبح في بعض عمارتها، فنادراً ما أثارا حفيظة أحد من أبنائها.
أخبار ذات صلة
في صحف اليوم: تراجع في موقف الجامعة العربية بشأن حزب الله بعد ضغط
2024-07-02 12:25 م 86
جنبلاط متشائم: أستشرف توسيع الحرب*
2024-06-24 09:10 ص 175
لبنان ليس للبيع... مولوي: نرفض الإغراءات المالية لتوطين النازحين*
2024-06-22 09:59 ص 152
تطوّر "لافت"... أميركا تكشف مكان السنوار وقادة حماس في غزة
2024-01-13 09:01 ص 231
خطة غالانت لما بعد حرب غزة.. هذه أهم بنودها
2024-01-04 09:09 م 276
مفوضية الجنوب في كشافة الإمام المهدي خرجت 555 قائدا وقائدة
2017-07-10 10:26 ص 1622
إعلانات
إعلانات متنوعة
صيدا نت على الفايسبوك
صيدا نت على التويتر
الوكالة الوطنية للاعلام
انقر على الزر أدناه لزيارة موقع وكالة الأنباء الوطنية:
زيارة الموقع الإلكترونيتابعنا
أطباء يحذرون: لا تجلس على المرحاض لأكثر من 10 دقائق لهذا السبب
2024-11-14 09:31 م
بدر زيدان: لخدمة صيدا وأبنائها وهو يسير على درب والده السيد محمد زيدان
2024-11-14 03:35 م
خليل المتبولي - المحبة بين الناس: جوهر العلاقات الإنسانية في زمن الحرب
2024-11-06 12:23 م
حكم وعبر في الحياة
2024-11-04 10:37 م
بالصور غارة على بلدة الغازية
2024-11-03 01:32 م
من هم أبرز المرشحين لخلافة السنوار
2024-10-19 06:19 ص
كارثة صحية تهدد مستشفيات صيدا بعد استنفاذ مخزونها من المستلزمات الطبية
2024-10-18 09:40 ص
حمام الشيخ في صيدا القديمة يفتح أبوابه لتمكين النازحين من الاستحمام
2024-10-17 03:02 م
مبروك المصالحة مبروك لصيدا وللنائب الدكتور أسامة سعد والمحافظ منصور ضو
2024-10-10 10:39 ص
بالصور تعليق عدد من اللصوص على الأعمدة في وسط الشوارع بالضاحية الجنوبية