×

سلاح فتح وفتيانها واقنعتها في مجتمع قروي ابان حرب السنتين (1975 – 1976)

التصنيف: سياسة

2011-05-15  10:21 ص  1379

 

تستعيد هذه الرواية – الشهادة بعضاً من وقائع حياة قروية في حرب السنتين (1975 – 1976) في لبنان. القرية هي شبعا الجنوبية الحدودية التي أنشأ فيها العائدون اليها من بيروت وضواحيها، مجموعة حزبية حصلت على السلاح من منظمة "فتح" الفلسطينية.

حين بدأت الحرب في لبنان ربيع 1975، وتوالت جولاتها في بيروت وضواحيها، ثم توسعت رقعتها وجبهاتها الى مناطق لبنانية كثيرة، لم يكن للأحزاب والميليشيات المسلحة التي باشرت الحرب، جماعات ومناصرون منظمون في شبعا. وحدها مجموعة "إتحاد قوى الشعب العامل" الناصرية، المحلية أو البلدية في القرية، كانت ناشطة تنظيمياً ودعوياً، وتضم عدداً من معلمي المدرسة الرسمية وفتياناً من تلامذتهم وشباناً من اقاربهم، لكن من دون اي نشاط مسلح او دورات تدريبية على السلاح. لكن الظاهرة الابرز في ما شهدته الحياة العامة في القرية اثناء حرب السنتين، هي ظاهرة إقدام شلة من شبان "اهل بيروت" ورجالهم العائدين، على إنشاء تجمع حزبي في الضيعة سموه "التجمع الوطني". كانت الشلة يسارية التجربة والهوى في الشياح التي عادت منها، فجمعت بين شبانها ورجالها علاقات القربى المستأنفة كركيزة لنشاط تجمعهم الحزبي في القرية. شاب من الشلة مكنته صلاته الوثيقة بمجموعات "فتح" الطالبية اللبنانية اليسارية المقاتلة في الشياح، من الاتصال بضابط "فتحاوي" فلسطيني من قوات ابو خالد العملة المرابطة في شرق الحاصباني او "فتح لند"، فحصل منه على اسلحة رشاشة وبعض مسدسات وذخائرها، إضافة الى عدد من القنابل اليدوية. كان هدف انشاء "التجمع" وتسليحه، هو نصرة "فتح" وحروبها الملبننة، والوقوف في وجه جماعة "اتحاد قوى الشعب العامل" الناشطة والنافذة في الضيعة، وجبه نفوذها. فالجماعة الناصرية القروية هذه وقيادة منظمتها في بيروت وفروعها في بعض المناطق السنّية، كانت توالي السياسات السورية في لبنان، شأن منظمة "الصاعقة" وغيرها من الجماعات والمنظمات الناشطة في المناطق الاسلامية اللبنانية، كمنظمة "امل" الشيعية.

 

فتيان "فتح"

بنادق الكلاشينكوف "الفتحاوية" المصدر، تلك التي حصلت عليها جماعة "التجمع الوطني"، واحضرتها الى شبعا في نهايات صيف 1975، كانت البنادق الحربية الاولى التي اخذت تظهر في الضيعة ظهوراً علنياً منظماً، يتوسل مناسبات بلدية لربط المجتمع القروي المحلي بمجريات الحرب العامة وانقساماتها في لبنان. فمنشئو "التجمع" كانوا جميعاً اصحاب دعوة حربية "نضالية" حملوها معهم من ضواحي بيروت وحروبها التي حملتهم على العودة الى الضيعة، وبث دعوتهم فيها. وهم، لهذه الغاية، أنشأوا تجمعهم على مثال ميليشيوي عرفوه في الضواحي، وبعضهم خبره هناك، قبل عودتهم الى ضيعتهم. لذا بدا "التجمع" ودعوته وسلاحه ونشاطاته ونسيج العلاقات الداخلية، التضامنية والمنظمة، بين اعضائه، ظاهرة جديدة غير مسبوقة في مجتمع الضيعة القروي ونسيج علاقاته العائلية والقرابية وتوازناتها المحلية، التي حاول منشئو "التجمع" السانحون عن هذه العلاقات والتوازنات، إما توسلها واستعمالها لاستمالة الانصار واستقطابهم وتأطيرهم، وإما نبذوها ووصموها بـ"الرجعية والتخلف" في ميزان دعوتهم "النضالية" الراغبين في استدخالها في نسيج المجتمع القروي.
أنا وبعض من فتيان الضيعة المقيمين فيها إقامة دائمة، والمنتمين الى "اتحاد قوى الشعب العامل"، كان افتتاننا بحضور "التجمع الوطني"، وبأشخاصه وسلاحه ودعوته، افتتاناً جديداً ومضاعفاً. فإلى فتنة الحصول على بندقية كلاشينكوف والتباهي بها، في حال الانتساب الى "التجمع" الجديد – وهذا ما لم يكن يوفره انتماؤنا الى "الاتحاد" الناصري، غير المسلح اصلاً، او غير المقبل على استعمال السلاح في دعوته وشبكة علاقاته المنسجمة مع العلاقات الاهلية والقرابية في الضيعة – فتننا أيضاً اشخاص "التجمع" القيمون عليه ومتصدروه الوافدون من بيروت، حاملين معهم دعوتهم "النضالية"، ونمطاً من السلوك والعلاقات الشخصية الجديدة الحميمة والحارة في ما بينهم، ومع من يستقطبونهم من فتيان الضيعة. هذا كله لم يكن مألوفاً في ضيعتنا من قبل. وجدّته أطلقت فينا حمية الفتوة واندفاعها وطيشها، والرغبة في الخروج على ركود حياتنا القروية وإلفتها. لذا اندفعنا متحمسين في تيار الدعوة التي بثها "التجمع"، ومأخوذين بشبكة العلاقات الجديدة التي نسجها ما بين المنتسبين اليه.
لم تكن فتنة السلاح وحرارة العلاقات وحدهما من بواعث التحاقنا بـ"التجمع" البلدي "الفتحاوي" المسلح. ذلك ان منشئيه بثوا في القرية ايضاً حمية غير مسبوقة في تصديهم لبعض شؤونها الحياتية العامة. ففي صيف 1976، اقدموا على فتح ابواب المدرسة الرسمية، لإيواء اسر فقيرة من الضيعة هجّرتها الحرب من بيروت، من دون ان تمتلك في الضيعة بيوتاً تؤويها، ولم تقوَ علاقات القربى وشبكات التضامن القروي على استيعابها وإيوائها.
وبين قاعات التدريس الفارغة التي غصت بأسر من فقراء المهجرين، افتتح "التجمع الوطني" مكتباً او مقراً حزبياً له في احدى القاعات، فزودها احد مؤسسيه بمجموعة كتب متنوعة احضرها من مكتبته الخاصة في بيروت، واخذ يدعو الفتيان والشبان "التجمعيين" الى استعارتها، ويحضهم على قراءتها ومناقشتها احياناً. وسرعان ما تحولت القاعة المدرسية مقراً لاجتماعات "التجمع" الحزبية اليومية، وملغىً يومياً لانصاره واصحابهم واقاربهم. وأزمة الطحين والمحروقات التي نجمت عن فوضى الحرب في لبنان، حملت "التجمع" على إنشاء "لجنة تموينية" من اعضائه، فمكنتها شبكة علاقاتها بـ"فتح" و"جيش لبنان العربي" المنشق عن الجيش اللبناني، من الحصول على تموين للضيعة، من الطحين الذي اتخذت اللجنة من مبنى البلدية، مركزاً لتوزيعه على الاهالي بأسعار متهاودة.
اثارت هذه المبادرات وغيرها من نشاطات "التجمع" بلبلة ووساوس وعداوات في المجتمع القروي. وهذا، كغيره من مجتمعات شبكات التضامن الاهلي والعصبي، يسوس شؤونه العامة وتباين الرأي فيها والتفاوت بين جماعاته المتباينة، سياسة مدارها النزاع على التصدر والمكانة والرئاسة، مهما صغر شأن هذه الاخيرة، ومهما اثار الصراع عليها من ضغائن واحقاد تتناسل وتتضخم بين الجماعات. و"التجمع" في نشاطاته وسعيه الى استقطاب المحازبين والانصار، لم يكن في منأى عن مثل هذه السياسة. فهو استغل، مثلاً، بعض المناسبات القروية لإقامة مهرجانات وعراضات مسلحة وخطابية. وأقدم وجيه مقرب منه على نحر خراف في ساحة الضيعة، استقبالاً وتكريماً لوفد من مقدمي ميليشيات الحرب و"جيش لبنان العربي".
استنهض هذا وغيره نعرات وشقاقاً في بعض الدوائر الاهلية القروية، واستفز عدداً من وجهاء العائلات الذين اخذوا يتذمرون من حضور "التجمع" ويبثون الاحقاد ضده بين الاهالي، لأن الحظوة التي تراءى لهم ان منشئيه الوافدين من بيروت، اخذوا يكتسبونها، إنما ينتزعونها من رصيد مكانه الوجهاء المقيمين. وبدورهم اخذ ناشطو "التجمع" – وهم اصلاً من اليساريين العاميين المكتسبين يساريتهم هذه في ضاحية بيروت الجنوبية – يناصبون الوجهاء المحليين العداء، ويحرّضون الفتيان من انصارهم عليهم باعتبارهم "حصون الرجعية". كأنما سلاح "فتح" الذي وزعوه على أولئك الفتيان، وجعلوه من مصادر نفوذهم في الضيعة الجردية الحدودية النائية، سيحررها ويحرر فتيانها من تلك "الحصون" الوهمية، في بلاد اغرقتها سياسات "فتح" الأمنية والميليشياوية في حروب اهلية مدمرة، بعدما استجابت جماعات لبنانية واسعة الى هذه السياسات واندفعت في ركابها.
 

رواية محمد نبعة / كتابة محمد ابي سمرا     
(mohamad.abisamra@annahar.com.lb )      

أخبار ذات صلة

إعلانات

إعلانات متنوعة

صيدا نت على الفايسبوك

صيدا نت على التويتر

تابعنا